أخبار عربيةعاجل

لمحات من سجل رحلة الحجيج الهنديّ «الشاقة» إلى مكّة زمن الاستعمار

أداء فريضة مناسك الحجّ، على الأقلّ مرّة واحدة في العمر، هو حُلم يراوِد كلّ مُسلمي الأرض، الذين كانوا وما زالوا، منذ ظهور الدعوة الإسلامية إلى يومنا هذا، يتطلّعون إلى ترجمة هذا الحلم.

وحينما نقرأ في كُتب الرحلات الهنديّة ومذكّرات الحجّاج الهنود، وكذلك في الوثائق الأوروبيّة عن وضْع الحجّ والحجّاج في شبه القارّة الهنديّة وجنوب آسيا منذ العصور الإسلاميّة وحتّى النصف الأوّل من القرن العشرين، نستطيع أن نتصوّر الصعوبات والمشقّات والعوائق التي كان الحجّاج يواجهونها آنذاك في رحلاتهم الطويلة للحجّ، والتى كانت تستغرق شهورا بالفعل، كما ورد بالقرآن الكريم (الحج أشهر معلومات.. الآية)، لاسيّما في ظلّ انعدام وسائل نقل متطوّرة.

وقد كانت السفن – الآتية من ناحية القارّة الهندية – تُواجِه، لدى اقترابها من سواحل بحر العرب، أمواج البحر العاتية. وكانت عمليّة القرْصَنة أيضًا واحدة من أبرز المخاطر التي تَذكُرها المصادر الهندية والوثائق البريطانية. ولذلك اعتُبرت العودة السالِمة من هذه الرحلة الدينيّة الشاقّة يومئذ، من العجائب، ومدعاةً للانتصار والفخر الكبيرَين.

أمّا ذوو أهل الحجّاج، فكانوا يقيمون بمناسبة عودة أهاليهم من الحجّ احتفالات فرح شبه مُتواصِلة، وبخاصّة أنّ هؤلاء الحجّاج خاضوا التجربة الروحية بنجاح.

وفي هذا الصدد، تعرض نشرة (أفق) – الصادرة عن مؤسسة الفكر العربى – مقتطفات مُختارة من الروايات والأخبار التي دُوِّنت في كُتب الرحلات الهندية والوثائق البريطانية، والتي تشهد على تلك الصعوبات والعوائق، والتي يتّضح منها كيف كانت رحلة الحجّ نموذجية للحجّاج الهنود في القرن التاسع عشر الميلادي خلال فترة الاستعمار البريطاني، علمًا بأنّ هناك العديد من الرحلات واليوميّات والمذكّرات التي دوَّنها بعض الحجّاج الهنود المثقّفين في تلك الحقبة التاريخية، فضلًا عن توافر مواد كثيرة عن الحجّ والحجّاج في الصّحف والمجلّات الأرديّة والهنديّة والإنجليزيّة، التي تلقي الضوء على تلك الصعوبات والمَخاطر والمَهالك.

وثمّة قصص مُثيرة للاهتمام عن الإيمان والشجاعة اللّذَين كانا يدفعان بالمسلمين الهنود، من الطبقة المتوسّطة والفقيرة والعليا على حدّ سواء، للقيام بهذه الرحلة الدينية الشاقّة إلى مكّة المكرَّمة.

وتقول تلك الروايات إن معظم الحجيج كانوا يهيّؤون أنفسهم ويبذلون كلّ غالٍ ونفيس في سبيل جمع الأموال اللّازمة التي تخوّلهم الوصول إلى هدفهم الدينيّ والروحيّ هذا.

وكان الحجّ الافتراضي يتطلّب من الحجّاج المُقيمين في داخل المناطق الهندية الشمالية أن ينطلقوا أوّلًا نحو مدينة بومباي الساحلية. وعلى الرّغم من أنّ هذه الرحلة الداخلية أصبحت أسهل ممّا كانت عليه بعد إنشاء سكك الحديد، إلّا أنّه حتّى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي على الأقلّ، لم تكُن إلّا المُدن والبلدات الكبرى مربوطة بخطوط سكك الحديد هذه، ومن ثمّ كان الحجّاج من المُدن الصغرى والمناطق النائية يضطرّون إلى القيام بهذه الرحلات الداخلية الطويلة بواسطة عربات الثور برًّا، وبواسطة العبّارات والقوارب نهرًا.لم يكُن هناك إلّا ميناءٌ واحد للمُغادرة على شواطئ مدينة بومباي.

وكان ينبغي على الحجّاج أن يظلّوا في انتظار السفن التي تحملهم عبر بحر الهند والبحر الأحمر إلى ميناء جدّة، وكانوا مُجبرين على قطع تذاكر السفر بوساطة وكلاء السفن أو السماسرة. وكانت هذه العمليّة الأخيرة صعبة جدًّا بالنسبة إليهم، لأنّ هذه الشريحة من الوسطاء والوكلاء والسماسِرة لم تكُن ذات سمعة طيّبة. كان معظمهم يستغلّ الحجّاج وظروفهم من أجل جني المال والربح بطُرق غير شرعيّة.

وتوثق تلك الروايات أنه بعد إتمام عمليّة التفاوض مع الوسطاء والوكلاء والسماسِرة، كان عليهم أن ينتظروا بصبرٍ وأناة ميعاد مغادرة سُفنهم.

يشار إلى أنّه لم يكُن لميعاد توقيت المُغادرة المدوَّن على تذاكرهم أيّ قيمة لجهة الالتزام به؛ إذ إنّ السفن المعنيَّة لم تكُن تُغادر ميناء بومبابي من دون تأجيل رحيلها مرّة أو مرّتَين على الأقلّ، وفي بعض الحالات، كان الحجّاج يُجبرون على الانتظار لمدّة تتراوح بين شهر وشهرَين لأسباب خارجة عن إرادتهم. ولأنّ شركات السفن الأوروبية في تجارة الحجّ تُركت من دون أيّ رقابة على نشاطاتها، كانت تتصرّف بحرّية تامّة وتنتظر لحين اكتمال عددٍ كافٍ من الركّاب.

ولأنّ إدارة هذه السفن التجاريّة لم تكُن تخضع أيضًا لأيّ نوعٍ من الرقابة أو الفحص، لم يكُن هناك من إجراءات تفتيش للتأكّد من سلامة السفن ووجود أماكن كافية ومريحة لجميع الركاب؛ إذ كان الهدف شحْن طوابق السفن بالحجّاج، حتّى أنّه كان يتمّ استخدام الأجزاء العلويّة لتحميلها بالركّاب، من دون أدنى خوف من وقوع حوادث مُحتمَلة. وفي مثل هذه الأحوال، ثمّة حالات إغماء كانت تحصل بين الركّاب، فضلًا عن تفشّي الأمراض على أنواعها بسبب الافتقار إلى مصادر كافية للتهوئة في الطوابق السفلى.

تجدر الإشارة إلى أنّ الحكومة البريطانيّة “الاستعمارية” في الهند سنَّت بعض القوانين بين عامَي 1858 و1869، بغية تحسين أوضاع الحجّاج عن طريق تحديد عدد الركّاب على متن السفن، ووضعت الشروط – كذلك – بشأن الفحص الطبّي الإجباري لجميع الحجّاج دونما استثناء؛ إلّا أنّ شركات تلك السفن عارضت هذه الإجراءات بشدّة، ظنًّا منها بأنّ السلطات البريطانية تخطِّط لإلحاق الأضرار بنشاطاتها التجارية. ولمّا كانت للحكومة الاستعمارية أيضًا مصالح مرتبطة بهذه السفن التجاريّة، فإنّه لم يكُن بمقدورها أن تتدخّل في شؤونها الخاصّة تدخّلًا سافرًا.

ومع ذلك كانت هناك محاولات قليلة من جانب بعض شركات السفن البريطانية الهندية لتحسين خدمات السفن للحجّاج، منها على سبيل المثال “شركة توماس كوك” الهندية.

وتفيد الوثائق الخاصّة بالحج – المحفوظة في أرشيف هذه الشركة – بأنّ إدارة الشركة أرسلت بعض وكلائها إلى جدّة لتقديم الاقتراحات بشأن كيفيّة تحسين ترتيبات نقل الحجّاج الهنود. وكتب ابن توماس كوك حينما عَلِم بتعيين والده في منصب الوكيل، يقول: ” إنّني أعلم – عِلم اليقين – أنّ هذا العمل مُحاطٌ بمزيدٍ من الصعوبات والإجحاف والظلم والغبن والخداع أكثر من أيّ عمل آخر قمت به حتّى الآن”. ولدينا كتيّبات عديدة خاصّة بشؤون الحجّ والحجّاج تصف وصفًا دقيقًا ومفصّلًا تدخّل توماس كوك في شؤون الحجّ وانهماكه فيها، ووقوعه في مشكلات كثيرة متعلّقة بتحسين ترتيبات رحلات الحجّ وضبط شؤونها ضبطًا جيّدًا.

وعلى أيّ حال، وقبل مُغادَرة سُفن الحجّاج، كان يُطلَب من كلّ الحجيج دونما استثناء المرور على المُعسكَر الطبّي الواقع في الميناء، لكي يخضعوا للفحوص الطبّية، وكانت أمتعتهم تخضَع للتعقيم والتطهير أيضًا. كما كان يُطلب من البعض تقديم طلب لاستخراج جواز سفر الحجّ في الميناء، على الرّغم من أنّ هذا الأمر الأخير لم يكُن إلزاميًّا في كثير من الأحيان. وبمجرّد أن يتمّ الإعلان عن رحيل السفن، كان على كلّ حاجّ أن يشقّ طريقه بين حشدٍ هائل من الركّاب كي يجد لنفسه ولأمتعته مساحةً كافية.

بعد ذلك تتهيّأ السفن للانطلاق وتستمرّ في مسارها إلى أن تتوّقف برهة من الزمان في ميناء (كراچي) لشحن مزيد من الركّاب، كما كانت تقف في ميناء عدن لتحميل أو تفريغ الفحم أو غيره من البضائع قبل أن تغرس مرساتها في جزيرة كمران التي اختارها المجلس الأعلى للصحّة في القسطنطينية تحت ضغوط الدول الأوروبية الاستعمارية كمراكز حجر صحّي للحجّاج والمسافرين القادمين من آسيا الجنوبية إلى الأراضي المقدّسة.

وعلى الرّغم من أنّ طاقات الحجيج كانت تُستنفد في رحلة تستغرق ما يقرب شهرًا كاملًا في ظروف غير صحّية للغاية، فيصيرون هزيلين وضعفاء للغاية، إلّا أنّه كان عليهم أن يعدّوا أنفسهم للخوض في نظام الحجر الصحّي، بحيث يتمّ وضعهم تحت المراقبة الطبّية منعًا لانتشار أمراض خطيرة، وذلك على الأقلّ مدّة خمسة عشر يومًا، كانت تطول في كثير من الأحيان إلى الضعف وربّما أكثر.

وفي الواقع، كانت قوانين الحجر الصحّي أو العزلة الإجبارية من أكثر الصعوبات التي كان الحجّاج الهنود يواجهونها وقتذاك، ولاسيّما الفقراء منهم؛ أمّا الأغنياء منهم، فكانوا يدبّرون أمورهم بنجاح في معظم الأحيان.

وبعد قضاء المدّة المطلوبة في العزلة الإجباريّة، كان الحجّاج يعودون إلى سفنهم لمُتابَعة رحلة الوصول إلى جدّة، حيث ينضمّون إلى قوافل الحجّاج المتّجهة نحو مكّة المكرّمة. فيؤدّون مناسك الحجّ الطويلة والشاقّة. كانوا يمكثون في مكّة لمدّة أسبوع أو أكثر مثل معظم الحجّاج الآخرين، وبعد الانتهاء من أداء مناسك الحجّ يشدّون رحالهم مرّة أخرى على ظهور الجِمال متّجهين إلى المدينة المنوّرة.

وبعد الانتهاء من زيارة المسجد النبويّ والأماكن المقدَّسة الأخرى في المدينة المنوّرة وضواحيها، كانوا يعودون إلى جدّة ثانيةً، ومنها إلى الهند أو إلى مناطق أخرى في آسيا الجنوبية.

وكانت تلك الرحلات الدينية تستغرق ما لا يقلّ عن أربعة أشهر تختلط فيها المُعاناة بفرح إتمام الواجب الدينيّ. بعد العودة السالِمة للحجّاج الهنود إلى ديارهم، كان يُطلق على كلّ واحد منهم “حاجي صاحب”، ويظلّ هذا اللّقب مُصاحِبًا لهم طيلة مسار حياتهم ويُعرَفون به بعد مماتهم أيضًا.

ويقول الباحث الهندى الدكتور صاحب عالِم الأعظمي النّدوي: لئن كان الحجّاج المصريّون والشاميّون يرسمون آنئذ مشاهد من الحجّ على جدران منازلهم للإعلان عن وضعهم الدّيني الرفيع أمام المجتمع، فإنّ نظراءهم في الهند كانوا يعلّقون صورًا أو شهادات أو مشاهد من الحرمَين الشريفَين في منازلهم من أجل تحقيق الأهداف الرفيعة نفسها.

تجدر الإشارة إلى أنّ الكثير من التجّار الهنود كانوا يستغلّون فرصة الحجّ لتنشيط تجارتهم التي كانت توفّرها تلك الرحلات الدينية؛ إذ كانت تُحقِّق لهم أهدافًا دينية وتجارية بطريقة تجعل من أرباحهم على طول الطريق وسيلة لسدّ احتياجات الحجّ ونفقات الرحلة.

وكان هناك عددٌ كبير من المسافرين الهنود ممّن يشدّون رحالهم مدفوعين بأهدافٍ تجارية بحتة، وكانت هذه المظاهر تنعكس إلى حدّ كبير في نسبة التجّار الهنود وأصحاب المحال التجاريّة الذين كانوا يقيمون في أكناف الحرمَين الشريفَين إقامة دائمة في تلك الفترة التاريخية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى