نظرة هامة على ثغرة حرب أكتوبر .. بقلم خالد عكاشه
الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية أثناء حرب أكتوبر عام 1973م، هو بحكم منصبه القائد العسكري الميداني الأعلى وقت الحرب والمسئول الأول عن سير العمليات على الأرض، وعن تنسيق المهام للقوات والمناورة بها وتوجيهها وتحديد واجب العمليات لها، وأيضا مكلفا بتحقيق الهدف الإستراتيجي السياسي للمعركة الذي وافق عليه بعد الإعداد والتخطيط له، ويتبعه بحكم مسئوليات هذا المنصب وواجباته رئيس هيئة العمليات اللواء عبد الغني الجمسي وباقى قادة الأسلحة الرئيسية والفرعية الأخرى ومن بينهم اللواء حسني مبارك قائد القوات الجوية فى ذلك الوقت الذى أصبح رئيسا لمصر بعد مقتل السادات منذ أكثر من ربع قرن مضت حيث كان الرئيس الراحل السادات قد اختاره قبل اغتياله نائبا له .
أما السادات فهو بحكم منصبه وقت المعركة كرئيس للجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة فقد كان القائد السياسي للمعركة، ويملك بحكم منصبه إصدار قرار الحرب كقرار سياسي وإصدار قرار إيقاف الحرب كذلك بعد التشاور مع وزير الدفاع ورئيس أركان حرب القوات المسلحة على الأقل دون التدخل فى الشأن العسكري على أرض المعركة، وقرار الحرب أو العمل العسكري هو أحد أدوات السياسة الخارجية حيث تعتبر السياسة الخارجية أحد العناصر الرئيسية المكونة للسياسة العامة للدولة، وينطوي تطبيق السياسة الخارجية عادة على توظيف مجموعات مختلفة من الأدوات فى آن واحد منها ما هو دبلوماسي وما هو عسكري وما هو إقتصادي لتحقيق هدف معين كما حدث أثناء حرب أكتوبر 1973م .
وقد دارت بين الرجلين معارك وسجال طاحن حول معركة الثغرة التي دارت على الضفة الغربية للقناة بالقرب من منطقة الدفرسوار، بدأت بإقالة السادات لرئيس أركانه في وسط المعركة ولم تنتهي بوفاة السادات بل استكملت فصولها في عهد سلفه مبارك، وعندما يتكلم الشاذلي عن المعركة بحكم منصبه من الناحية العسكرية فيجب بالاعتبار التاريخي الإنصات فهو الأدرى بتفاصيلها وأسرارها، وهو المصدر الأهم والأساسي لتفاصيل مسار تلك المعركة من ساعة الصفر حتى ساعة وقف إطلاق النار، وقد اتهم الشاذلي السادات باتهامات عديدة وقدم الأدلة على ذلك في بلاغ للنائب العام بمذكراته التي نشرها في الفترة ما بين ديسمبر 1978 ويوليو 1979م في مجلة “الوطن العربى”، أي في حياة الرئيس السادات كرد فعل على ما ورد في مذكراته والتي سماها بنفسه “البحث عن الذات / قصة حياتى”، ونشرها السادات باللغة العربية ” المكتب المصري الحديث” في إبريل 1978م، وأصدرت محكمة عسكرية عام 1983م أثناء حكم مبارك حكما غيابيا على الشاذلي بالاشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات بتهمة إفشاء أسرار عسكرية بمذكراته التى نشرها، ترتب على إذاعتها الإضرار بأمن وسلامة البلاد كما تقول حيثيات الحكم، رغم أن تلك الأسرار كان قد أذاعها السادات بنفسه وبروايته هو للأحداث في قصة حياته التي نشرها، وقبل الدخول إلى منطقة الخلاف بين الرجلين لابد من التوقف بالتحية الواجبة للرئيس عبد الفتاح السيسي منذ أن كان يشغل منصب وزيرا للدفاع وهو قد أخذ على عاتقه تصحيح العديد من الأوضاع والمواقف المغلوطة، وحرص منذ هذا التوقيت على ترسيخ مبدأ إحترام كل من قدم لمصر دورا وطنيا يستحق الإعتبار حيث قامت القوات المسلحة بتكريم خاص لأسرة الفريق حين قررت إطلاق إسم “دفعة الفريق سعد الدين الشاذلي” لطلبة الكليات العسكرية التي تضم الدفعات 109 حربية و67 بحرية و82 جوية و54 فنية عسكرية و44 دفاع جوي، وهو قرار بالإضافة للعديد من أشكال التكريم الأخرى يدعو للفخر والإحترام تجاه قواتنا المسلحة .
عن رواية الفريق الشاذلي لمعركة الثغرة فقد جاءت بنص كلماته كالتالي : “بعد عودتي من الجبهة يوم الخميس 11 من أكتوبر، فاتحني الوزير في موضوع تطوير هجومنا نحو المضايق، ولكني عارضت الفكرة للأسباب نفسها التي سبق أن ذكرتها سابقا، وأضفت قائلا مازالت القوات الجوية الإسرائيلية قوية وتشكل تهديدا خطيرا لأية قوات برية تتحرك في العراء دون غطاء جوي، وبدا لي وكأنه اقتنع بهذا واغلق الموضوع، لكنه عاد وفاتحني في الموضوع مرة أخرى في صباح اليوم التالي مدعيا هذه المرة أن الهدف من هجومنا هو تخفيف الضغط على الجبهة السورية، عارضت الفكرة مرة أخرى على أساس أن هجومنا لن ينجح ولن يخفف الضغط على الجبهة السورية، وقواتنا الجوية ضعيفة ولا تستطيع تحدي القوات الجوية الإسرائيلية في معارك جوية، وبالتالي فإن قواتنا البرية ستقع فريسة للقوات الجوية الإسرائيلية بمجرد خروجها من تحت مظلة الدفاع الجوي أي بعد حوالي 15 كيلومترا شرق القناة، إذا نحن قمنا بهذه العملية فإننا سوف ندمر قواتنا دون أن نقدم أية مساعدة لتخفيف الضغط على الجبهة السورية، وحوالي الظهر تطرق الوزير لهذا الموضوع للمرة الثالثة خلال 24 ساعة وقال هذه المرة القرار السياسي يحتم علينا ضرورة تطوير الهجوم نحو المضايق ويجب أن يبدأ ذلك صباح غد 13 من أكتوبر !!” .
“وحوالي الساعة 1530 كان اللواء سعد مأمون قائد الجيش الثاني يطلبني على الهاتف وقد قال بغضب “سيادة الفريق أنا مستقيل، أنا لا أستطيع أن أقوم بتنفيذ التعليمات التي أرسلتموها مع اللواء غنيم”، ولم يمض بضع دقائق حتى كان اللواء عبد المنعم واصل هو الآخر على الخط الهاتفي وأبدى معارضة شديدة لتلك التعليمات التي وصلته مع اللواء طه المجدوب، ولكن كان هناك إصرار من الوزير على أن القرار سياسي ويجب أن نلتزم .”
“لم يفهم رئيس الجمهورية ووزير الحربية أهمية المناورة بالقوات إلا بعد ظهر يوم 18 من أكتوبر، وبعد أن أصبحت قواتنا مهددة بالتطويق وبعد أن دمر العدو الكثير من مواقع صواريخنا سام، وبعد أن أصبحت القوات الجوية المعادية قادرة على العمل بحرية من خلال الثغرة التي أحدثتها في دفاعنا الجـوي، وحتى عندما فهما أنني كنت على حق في المطالبة بسحب جزء من قواتنا من الشرق فإنهما لم تكن لديهما المقدرة على تصور ما يمكن أن يحدث بعد يومين أو ثلاثة، وبعد أن فشلت في إقناع الوزير بوجهة نظري، أفضيت لبعض مساعدي بقلقي على الموقف وأفضيت لهم بأنه إذا لم نسحب جزءا من قواتـنا من الشرق إلى الغرب فسوف تقع كارثة لا يعلم أبعادها إلا الله” .
“لقد كان القضاء على الثغرة يوم 16 من أكتوبر سهلا ميسورا لو لم يثر السادات في وجهي وكـأني ارتكبت حماقة، وفي يوم 20 من أكتوبر كان الموقف ما يزال تحت سيطرتنا ويمكن القضاء على الثغرة لو أن السادات أخذ برأيي ولم يرفض سحب جزء من قواتنا في الشرق، إن في ذلك لعبرة ودرسا لمصر وأبنائها أنه درس قاس دفعت مصر والعرب ثمنا غاليا له، ولكنه درس على أي حـال، إن السادات هو أحد مئات من حكام مصر الذين حكموا هذه البلاد عبر 7000 عام سيذهب ويجئ من بعده مئات آخرون، وستبقى مصر شامخة عزيزة الجانب وسيشهد التاريخ أن حرب أكتوبر 73 قد أبلى فيها الجندي المصري أحسن بلاء وأن الضباط والجنود جميعا قد بذلوا جهدهم وأدوه أروع أداء، إلا أن حاكم مصر في ذلك الوقت المتعطش إلى السلطة وحب الظهور قد أجهض انتصارهم ” … انتهت تقريبا كلمات الفريق الشاذلي الذي وردت في مذكراته التي نشرت بالقاهرة لاحقا واعيد طباعتها مرات عديدة وفيها يذكر تفصيلات أكثر حول تلك الواقعة .
لكن من المهم جدا قراءة شهادة بعيدة تماما عن خلاف الرجلين في إدارة المعركة جاءت من الجانب الآخر على لسان المؤرخ العسكري الإسرائيلي المعروف “أورى ميلشتاين” حيث تحدث باستفاضة عن إنتصار مصر في حرب أكتوبر بجدارة في كتابه القنبلة ” التقصير / المحدال”، مؤكدا أن سلاح الجو الإسرائيلي كاد يتعرض للتدمير أثناء الحرب بسبب صواريخ سام 6 التي استخدمها الجيش المصري، ووصف ميلشتاين “ثغرة الدفرسوار” بأنها كانت خطوة عسكرية إستعراضية لم تغير من نتيجة الهزيمة الإسرائيلية، كما أنها لم تقلل شيئا من الانتصار المصري، مشيرا إلى أن الجيش المصري حقق أهدافه من وراء الحرب ونجح فى عبور القناة ونشر قواته داخل سيناء .
وتوقع المؤرخ الإسرائيلي في حوار مطول لإذاعة أورشليم الجديدة بمناسبة ذكرى أكتوبر أن إسرائيل لن تصمد فى مواجهة مصر إذا اندلعت حرب جديدة، خاصة أن الحرب المقبلة لن تدور فى الميادين العسكرية فقط بل قد تلجأ مصر لقصف العمق الإسرائيلي بالصواريخ المتطورة، بما يهدد بإصابات بالغة في صفوف المدنيين قد تؤدي إلى انهيار إسرائيل، مشيرا إلى أن ثقافة الشارع الإسرائيلي تقوم على الصراخ والبكاء، ولا يتحمل الإسرائيليون مواجهة مقاتلين يتحلون بالعناد والشراسة أثناء القتال، واتهم المؤرخ العسكري الجيش الإسرائيلى برفض الاعتراف بالهزيمة والإصرار على عدم الكشف عن جميع الوثائق المتعلقة بهذه الحرب، وقد أدى إخفاء هذه الوثائق إلى منع إسرائيل من فرصة استيعاب جميع الدروس المستفادة من الحرب رغم مرور ما يزيد عن 40 عاما على الهزيمة التى يعرف الإسرائيليون عنها القليل جدا .
وذكر ميلشتاين نقطة غاية في الأهمية إن سلاح الجو الإسرائيلي لم تكن لديه القدرة على تحييد الصواريخ الدفاعية المصرية، وكان سيتعرض لضربة قاصمة لو نفذ ضربة استباقية للقوات المصرية، كما أن عملية الدفرسوار كانت مجرد خطوة معنوية وتكشف عن خطة سيئة عسكريا حيث لم يكن لها أي جدوى، والادعاء بأنها دليل على الانتصار كذب وتلفيق تماما كما حدث في اليوم الثالث للحرب عندما قام “موشى ديان ـ وزير الدفاع” بجمع الصحفيين والمراسلين العسكريين ليعترف بالهزيمة وبسقوط خط بارليف، لكن جولدا مائير ورؤساء التحرير حجبوا ذلك عن الرأى العام وفرض حظر تام على نشره حتى اليوم وفيه تفصيلات كاملة عن أحداث أيام الهزيمة الأولى .
خالد عكاشه