إسلامياتعاجل

نص كلمة شيخ الأزهر في افتتاح مؤتمر الأزهر العالمي

 

ألقى فضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، اليوم الإثنين، الكلمة الافتتاحية في “مؤتمر الأزهر العالمي لتجديد الفكر والعلوم الإسلامية”، بحضور المهندس مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، نيابة عن الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، وسط مشاركة نخبة من كبار القيادات والشخصيات السياسية والدينية البارزة على مستوى العالم، وممثلين من وزارات الأوقاف ودور الإفتاء والمجالس الإسلامية من 46 من بين 57 دولة من دول العالم الإسلامي.

وفيما يلي نص كلمة فضيلة الإمام الأكبر:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سلك دربه ونهج نهجه..
دولة الرئيس مصطفى مدبولى نائبا عن سيادة الرئيس/ عبد الفتاح السيسي – رئيس جمهورية مصر العربية حفظه الله وسدد خطاه!
أصحاب الفضيلة علماء المسلمين من كل بقاع الدنيا!
الحفل الكريم!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد/

فمرحبا بكم جميعا وبضيوفنا الأعزاء، ضيوف مصر الكنانة، في هذا المؤتمر الأول من نوعه، مؤتمر الأزهر العالمي لتجديد الفكر الإسلامي، ونشكركم على تفضلكم بتلبية الدعوة وتجشمكم عناء السفر، وأهلا بكم ومرحبا وشكرا جزيلا على مشاركتكم وتشريفكم.

هذا وإن موضوع تجديد الفكر الإسلامي، أو الخطاب الديني، لهو موضوع واسع الأرجاء مترامي الأطراف، وقد بات في الآونة الأخيرة مفهوما غامضا وملتبسا، لكثرة تناوله في الصحف وبرامج الفضاء، وممن يدري ومن لا يدري، ومن الموهوبين في مهارة التحدث في أي موضوع، دون دراسة كافية أو إعداد علمي سابق.. ولكل ذلك لا يمكن الحديث عن هذا الموضوع حديثا علميا في كلمة المحدودة زمانا ومساحة.. أما إن كان ولابد فقصارى الأمر فيه أن يجيئ حديثا أشبه بالإشارات والتنبيهات..

وأول ما تنبغي الإشارة إليه هو بيان أن العلاقة بين «التجديد» وبين بقاء الإسلام دينا حيا يقدم الخير للبشرية جمعاء -هي علاقة التطابق طردا وعكسا، وهما أشبه بعلاقة الوجهين في العملة الواحدة، لا ينفصم أحدهما عن الآخر إلا ريثما تفسد العملة بوجهيها وتصبح شيئا أقرب إلى سقط المتاع..

وشهادة التاريخ تثبت أن الإسلام ظل -مع التجديد-دينا قادرا على تحقيق مصالح الناس، وإغرائهم بالأنموذج الأمثل في معاملاتهم وسلوكهم، بغض النظر عن أجناسهم وأديانهم ومعتقداتهم؛ وأنه مع الركود والتقليد والتعصب بقى مجرد تاريخ يعرض في متاحف الآثار والحضارات، وغاية أمره أن يأرز إلى دور العبادة، أو يذكر به في المواسم والمآتم والجنائز على القبور.. وهذا المصير البائس لايزال يشكل أملا لذيذا، وحلما ورديا يداعب خيال المتربصين في الغرب والشرق، بالإسلام وحده دون سائر الأديان والمذاهب، ومن هؤلاء من ينتمي إلى هذا الدين باسمه وبمولده..

ومما يجب أن يتنبه إليه المسلمون ويلفتوا أنظارهم إليه أن قانون التجدد أو التجديد، هو قانون قرآني خالص، توقف عنده طويلا كبار أئمة التراث الإسلامي وبخاصة: في تراثنا المعقول، واكتشفوا ضرورته لتطور السياسة والاجتماع، وكيف أن الله تعالى وضعه شرطا لكل تغير إلى الأفضل، وأن حال المسلمين، بدونه، لا مفر له من التدهور السريع والتغير إلى الأسوأ في ميادين الحياة.

وقد استند علماؤنا في أنظارهم هذه إلى آيات من القرآن الكريم تشير تلميحا أو تصريحا إلى هذا القانون.. مثل قوله تعالى:
▬ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [الأنفال: 53].
▬إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [الرعد: 11].
▬وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب [النمل: 88].
▬أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد [ق: 15].
▬ألا إلى الله تصير الأمور [الشورى: 53].
▬لا إله إلا هو إليه المصير [غافر: 53].

كما تدرعوا -كذلك- بحديث صحيح صريح في هذا الباب، هو قوله ﷺ: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها» ().
.. .. ..
ومن نافلة القول التأكيد أو التذكير بأن أحكام الدين الإسلامي تنقسم إلى ثوابت لا تتغير ولا تتجدد، وهي الأحكام القطعية الثبوت والدلالة، وسبب ثباتها في وجه قانون التطور، الذي هو سنة الله في خلقه هي أنها قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان، وهذه الأحكام معظمها مما يدخل في باب العقائد والعبادات والأخلاق، وقليل منها يتعلق بنظام الأسرة ومجالات أخرى ضيقة.. فالمسلم يصلي في عصر الفضاء مثلما كان سلفه يصلي في عصر الصحراء والإبل دون فرق.. وكذلك الصائم والمزكي، وكذلك الحج الذي بقي على صورته منذ قرابة خمسة عشر قرنا من الزمان، وقل مثل ذلك في سائر الثوابت بنص قاطع أو بإجماع الأئمة.

ثم يأتي النوع الثاني من الأحكام القابلة للتبدل والتغيير، وهي الأحكام المختصة بمجالات الحياة الإنسانية الأخرى، مثل الأحكام المدنية والدستورية والجنائية والاقتصادية والسياسية والسيرة الاجتماعية والبيع والشراء، وأنظمة الحكم والعلاقات الدولية والآداب العامة، وعادات الناس في المسكن والمأكل والملبس.. وما إلى ذلك.. وفي هذه المجالات ترد أحكام الشريعة الإسلامية في صورة أطر كلية ومبادئ عامة، تتسع لتطبيقات عدة وصيغ مختلفة، كلها مشروع ما دام يحقق مصلحة معتبرة في الشرع والأخلاق.. «ويضرب المجددون من علمائنا المعاصرين مثلا لهذا النوع موضوع: «البيع»، الذي تعالجه القوانين المعاصرة في مجلدات، فإذا ذهبت تستقرئ أحكامه في القرآن الكريم فلن يطالعك منها إلا ثلاثة أحكام فقط.. ومثل ذلك يقال على أحكام الفقه الدستوري التي لم يقرر فيها القرآن أكثر من ثلاثة مبادئ: الشورى والعدل والمساواة، والشيء نفسه يقال على أحكام العقوبات والقوانين الاقتصادية وغيرها» ().

الحفل الكريم!
لا يتسع المقام لبيان الأسباب التي أدت إلى غلق باب الاجتهاد وتوقف حركة التجديد، ولا لبيان موقف العلماء المسلمين و غيرهم من المفكرين وأصحاب الأقلام من هذه القضية في عصرنا الحديث، ولكن أشير بإيجاز شديد إلى أن نظرة سريعة اليوم على الساحة الثقافية الإسلامية وغير الإسلامية تظهر عدم الجدية في تحمل هذه المسؤولية تجاه شبابنا وتجاه أمتنا؛ فقد صمت الجميع عن ظاهرة تفشي التعصب الديني سواء على مستوى التعليم أو على مستوى الدعوة والإرشاد. ومع أن دعوات التعصب هذه لا تعبر عن الإسلام تعبيرا أمينا، إلا أنها تحظى بدعم ملحوظ مادي وغير مادي، يضاف إلى ذلك ظهور كتائب التغريب والحداثة. والتي تفرغت لتشويه صورة رموز المسلمين، وتلويث سمعتهم والسخرية من تراثهم، وأصبح على كثير من الشباب المسلم أن يختار في حلبة هذا الصراع: إما الانغلاق والتعصب والكراهية والعنف ورفض الآخر، وإما الفراغ والتيه والانتحار الحضاري، وإذا كان تيار الانغلاق قد أخفق في رسالته بعد ما راهن على قدرة المسلمين على العيش والحياة بعد أن يوصدوا أبوابهم في وجه حضارة الغرب وتدفق ثقافته، وتراجع بعد ما خلف وراءه شبابا أعزل لا يستطيع مواجهة الوافد المكتسح.. أقول: إذا كان هذا التيار قد أخفق، فإن تيار المتغربين والحداثيين لم يكن بأحسن حظا من صاحبه، حين أدار هذا التيار ظهره للتراث، ولم يجد حرجا ولا بأسا في السخرية والنيل منه، وكان دعاته كمن يغرد خارج السرب، وزادوا المشهد اضطرابا على اضطراب..

واليوم لا يخامرنا أدنى شك في أن التيار الإصلاحي الوسطي هو الجدير وحده بمهمة التجديد الذي تتطلع إليه الأمة.. وأعني به التجديد الذي لا يشوه الدين ولا يلغيه.. وإنما يأخذ من كنوزه ويستضيء بهديه، ويترك ما لا يناسب من أحكامه الفقهية إلى فتراتها التاريخية التي قيلت فيها وكانت تمثل تجديدا استدعاه تغير الظروف والأحوال يومذاك. فإن لم يعثر على ضالته فعليه أن يجتهد لاستنباط حكم جديد ينسجم ومقاصد هذا الدين. وهذا ما نأمل أن يعكسه -في صدق وأمانة- مؤتمركم .. مؤتمر علماء المسلمين بالأزهر، اليوم..

وأختم كلمتي بأن هذا المؤتمر ليس مؤتمرا نمطيا ولا تكرارا لمؤتمرات سابقة، وإنما هو مؤتمر يضطلع بمهمة مناقشة قضايا جزئية محددة، وإعلان فيصل القول فيها، وقد اكتشفنا أن القضايا التي هي محل التجديد قضايا كثيرة لا يستوعبها مؤتمر واحد، لذلك قرر الأزهر الشريف إنشاء مركز دائم باسم: «مركز الأزهر للتراث والتجديد» يضم علماء المسلمين من داخل مصر وخارجها كما يضم مجموعة من أساتذة الجامعات والمتخصصين في مجالات المعرفة ممن يريدون ويرغبون في الإسهام في عملية «التجديد» الذي ينتظره المسلمون وغير المسلمين.

شكرا لحسن استماعكم؛
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى