برحيل الكاتب مكاوي سعيد عن الحياة الدنيا أمس الأول “السبت” يحق لقلب القاهرة ان يبكي “حكاء وسط البلد” غير انه يحق القول ايضا أن ابداعاته لن تموت وستبقى في وجدان المدينة التي عشقها حتى اللحظة الأخيرة .
فرحلة هذا الكاتب والمبدع المصري الذي قضى عن عمر يناهز الـ 61 عاما اقترنت بوسط القاهرة أو “وسط البلد” كما يطلق القاهريون على هذه المنطقة الواقعة في قلب مدينتهم وكما يحلو للجميع ان يسموها.
وصاحب “مقتنيات وسط البلد” و”تغريدة البجعة” و”ان تحبك جيهان” كان يعتزم نشر رواية جديدة تتناول كواليس السينما المصرية فيما يتفق العديد من المعلقين على ان مكاوي سعيد رحل عن الحياة الدنيا في أوج مرحلة العطاء الإبداعي .
وعلى الايقاع البهيج لحشود البشر في قلب القاهرة والذين يجددون المعنى الكبير لثقافة المكان سيتوقف التاريخ الاجتماعي والثقافي طويلا امام الدور الأدبي الذي نهض به مكاوي سعيد في التوثيق الإبداعي “لوسط البلد”.
وكان هذا الارتباط الوثيق بين مكاوي سعيد ووسط البلد موضوع فيلم وثائقي انتج منذ نحو خمسة أعوام بعنوان :”ذات مكان” وهو فيلم دال على علاقة المبدع بالمكان فيما تشكل ابداعاته المتعددة في ثقافة المكان “منظومة ثقافية متكاملة وجامعة مابين الانساني الطريف والقبيح”.
فالمكان كما يقول الأديب النوبلي نجيب محفوظ هو الزاوية “التي يلتقط منها الكاتب شيئا يتعلق باحساسه الشخصي” وكثيرا مايسترجع المبدع أثناء الكتابة فضاء المكان والناس والأشياء داخل ذاكرة مشدودة الى صور ماضيات أو اجواء تلاشت”.
ومكاوي سعيد احد المبدعين الذين ساروا فوق ذلك الجسر المسمى الحنين الى عوالم مكانية وزمانية في وسط البلد ولعل علاقته بقلب القاهرة المنفتحة دوما تبرهن على صحة مقولة إن “المدن المنفتحة هي أمهات للمجتمعات المستنيرة ووجود مثل هذه المدن هام بشكل خاص للأدب”.
وعلى مقاهي وسط البلد تتردد الآن حكايات كثيرة حافلة بمشاعر الفقد بقدر ما هي مشحونة بالمحبة لمكاوي سعيد الذي ولد في السادس من يوليو عام 1956 وقضى في الثاني من ديسمبر عام 2017 ليلون نهاية العام القاهري بشجن الرحيل المباغت “لحكاء وسط البلد” الذي اجتمع المثقفون على محبته كما اجتمعوا مساء أمس “الأحد” في مراسم العزاء بمسجد عمر مكرم بحضور وزير الثقافة حلمي النمنم الذي وصفه بأنه “من المبدعين البارزين الذين شاركوا في الحياة العامة”.
وإذ تتوالى الطروحات والتعليقات في الصحف ووسائل الاعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي في الفضاء الرقمي حول صاحب رواية “فئران السفينة” يستدعي الكثير من المثقفين روحه المصرية الطيبة وبساطته الآسرة وحرصه على مساعدة شباب واعد لانجاز مشاريع ابداعية وكان بمثابة “الأب الثقافي لهم في تواصل بناء بين الأجيال”.
وصاحب “الركض وراء الضوء” وهي أولى مجموعاته القصصية جمع ما بين الشعر والقصة القصيرة والسرد الروائي مع اهتمامات بالسينما التسجيلية والأفلام القصيرة فيما تتجلى ثقافة المكان وذاكرة المبدع بتفاصيلها في كتابه “مقتنيات وسط البلد” ويجد القاريء نفسه في قلب القاهرة مع بطلي روايته “تغريدة البجعة.
وكانت روايته: “ان تحبك جيهان” وصلت عام 2008 للقائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية غير أن احداثها تدور في أماكن متعددة من الصعيد او جنوب مصر الى مناطق في القاهرة الكبرى كمصر الجديدة وحي الهرم وعابدين فيما تأثر في مستهل مسيرته الابداعية بالقاص الراحل يحي الطاهر عبد الله ولم يبخل على الأطفال بحكايات جميلة ضمن ابداعاته المتعددة.
وارتبط مكاوي سعيد على مستوى الوجود والابداع كل الارتباط بمنطقة القاهرة الخديوية نسبة لفترة الخديوى اسماعيل بتكويناتها المعمارية المميزة والمعبرة عن التفاعل الثقافى الحضارى النشط بين مصر وأوروبا وهي المنطقة التي شمل احياء وشوارع مميزة فى قلب القاهرة بصروحها المعمارية فى عابدين وباب اللوق والفلكى ولاظوغلى وشارع مجلس الأمة والشيخ ريحان ومحمد محمود والقصر العينى.
كما اقترن اسم مكاوي سعيد بأسماء المقاهي الشهيرة في “وسط البلد” مثل “زهرة البستان” و”الندوة الثقافية” و”الحرية” و”علي بابا” و”استرا” و”سوق الحميدية” وقد وثق لهذه الأسماء وغيرها في كتابه “مقتنيات وسط البلد” الذي يمكن وصفه بالمرجع الثقافي لوسط البلد منذ سبعينيات القرن الماضي .
وفي “مقتنيات وسط البلد” الكثير من علامات المكان في قلب القاهرة ناهيك عن شخصيات تتجاوز الـ 40 شخصية وتعبر عن مفارقات الدنيا ومدهشات النفس البشرية وتقلبات الحياة وتناقضات المبتدأ والمنتهى وقد يجد القاريء شيئا من ذلك ايضا في عمله الذي جاء بعنوان :”احوال العباد”.
وصاحب المجموعة القصصية “البهجة تحزم حقائبها” التي تضمنت ايضا وجوها قاهرية ونماذج انسانية في قلب المدينة كان امثولة للبهجة القاهرية في مقاهي وسط البلد حيث “الكلام ابداع يوازي في متعته ابداع الكتابة”.
ومابين المقاهي في وسط البلد كان مكاوي سعيد ينسج خيوط ابداعاته من تآملاته العميقة في رحاب المكان الجامع لنماذج بشرية شتى ويرصد التحولات في قلب القاهرة بفنادقها ونزلها ومطاعمها دون أن يغفل صاحب كتاب “اللامرئيون” عن البسطاء والهامشيين بقدر مابقى قريبا من الشباب ومنخرطا بحماس في فعاليات وورش عمل ترمي لتحفيز قدراتهم الابداعية في الكتابة والفلسفات والأفكار وجديد الكتب تتألق الحرية دوما كقيمة سامية وحاضرة دوما في اهتمامات الانسان عبر المكان والزمان.
ولعل علاقة المبدع مكاوي سعيد بمقاهي وسط البلد تعيد للأذهان اهمية توثيق الدور الثقافي للمقاهي على غرار ماتعرفه الثقافة الغربية التي تنتج اصدارات هامة على هذا الصعيد مثل كتاب “في المقهى الوجودي” لساره باكويل ويتحدث عن عصر انتشرت فيه الفلسفة الوجودية وتوهجت اسماء اعلام هذه الفلسفة وفي طليعتهم جان بول سارتر ورفيقته في مسيرة الحياة سيمون دي بوفوار .
وقد اختارت المؤلفة عنوانا فرعيا لكتابها الجديد هو :”الحرية ,الوجود, كوكتيل عصير المشمش” او كما نسميه في الشرق “قمر الدين” فان اختيارها لهذا العنوان الفرعي جاء ليعيد للأذهان انه كان المشروب المفضل لجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وريمون ارون في حوارات المقاهي حول الفلسفة الوجودية.
ولئن كانت الكاتبة السورية المقيمة في فرنسا هدى الزين قد اصدرت ايضا كتابا بعنوان :”المقاهي الأدبية في باريس.. حكايات وتاريخ” فقد يعيد ذلك للأذهان ان المقهى كان ركيزة اساسية من ركائز الحياة الثقافية والاجتماعية على امتداد مصر المحروسة وقد يوميء كل ذلك لأهمية توثيق الأدوار الثقافية والأدبية للمقاهي في ارض الكنانة استكمالا لجهود ثقافية واصدارت على هذا المضمار مثل كتاب “القهوة والأدب” لعبد المعطي المسيري.
فمن الذي ينسى اسماء مقاه مصرية نهضت بأدوار ثقافية وادبية مثل “متاتيا و”الفيشاوي” و”ايزافيتش” و” وريش” و”علي بابا” و”عبدالله” و”زهرة البستان” التي تبدو الآن حزينة شأنها شأن الجماعة الثقافية المصرية لفقد حكاء وسط البلد مكاوي سعيد؟.
ورغم الشعور بالأسى لفقد حكاء وسط البلد فان للنص القاهري ان يحرر أهدابه من الدموع لأن ابداعات مكاوي سعيد لن تموت وستبقى دوما في متن النص كعلامة ثقافية دالة على الهوية والانتماء المصري وعذوبة القاهريين وحكمتهم ونظرتهم المحتفلة بالحياة.