عاجلمنوعات

في شم النسيم.. المصريون يحتفلون بقيم الجمال وثقافة الانتصار للحياة

 

يحتفل المصريون اليوم “الاثنين” بشم النسيم أو عيد الربيع، وهو احتفال دال على معنى الهوية بقدر ما يحتفي بقيم الجمال وثقافة الانتصار للحياة في وطن تضرب جذوره العريقة في اعماق التاريخ وتشكل حضارته رسالة ملهمة للإنسانية كلها.

ولشم النسيم تجلياته الابداعية الأدبية المتعددة في الثقافة المصرية، وإذا كان الشاعر المصري الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي يقول إن “الشعر هو ربيع الحياة الدائم” ففي شم النسيم يتجلى الربيع في البيئة الجغرافية المصرية ما بين طيور السماء وورود الأرض وفرحة الكائنات كما يتجلى في البيئة الثقافية وخاصة في ابداعات الشعر المصري.

ويعيد احمد عبدالمعطي حجازي للأذهان حقيقة اقتران احتفال المصريين بشم النسيم بالانتصار للحياة فيقول إن هذا الاحتفال في الواقع التاريخي يرجع الى “الاحتفال بعودة اوزوريس للحياة”، فيما كان أمير الشعراء احمد شوقي حريصا على اقامة “حفل شم النسيم” كل عام بالقاعة الشرقية في منزله الشهير “بكرمة ابن هانيء” والذي تحول لمتحف ثقافي على ضفاف النيل الخالد.

وأمير الشعراء أحمد شوقي لم يجد أروع من الربيع كحياة وحب وجمال وازدهار وازهار ليشبه به الشعر فيقول عن الشعر:”نغم في السماء والأرض شتى من معاني الربيع او الحانه”، فيما يقول الكاتب والشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي ان عودة الربيع في الحضارات القديمة والعريقة كالحضارة المصرية ارتبطت بعودة الروح او الميلاد الجديد وهو “العيد الذي لانزال نحتفل به في شم النسيم”.

ووسط بهجة الاحتفال بشم النسيم تتردد كلمات المبدع المصري الراحل صلاح جاهين الذي وضع بصمته المبدعة بأسلوب السهل الممتنع في الأغنية التي ادتها الفنانة الراحلة سعاد حسني:”الدنيا ربيع والجو بديع” فيما يرى الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة ان “اغنية الربيع” للفنان الراحل فريد الأطرش “مازالت حتى الآن تتردد في اسماعنا كلما جاء شم النسيم”.

ويبدي جويدة اسفه لغياب “مثل هذا الابداع الجميل عن الغناء الجديد”. مضيفا ان اغنية الربيع كما غناها فريد الأطرش “من روائع الغناء العربي في عصره الذهبي” بينما رأى احمد عبد المعطي حجازي ان “الاحتفال بالربيع والشعر وازوريس يتطلب يقظة ثقافية”.

ويلفت مثقف مصري آخر بارز هو الكاتب الدكتور أسامة الغزالي حرب الى أن شم النسيم “عيد مصري عابر لكل الحواجز الجغرافية والاجتماعية والثقافية” وشم النسيم الذي يأتي في قلب الربيع-كما يقول اسامة الغزالي حرب-يحتفل به كل المصريين ويمثل “نقطة زمنية عبقرية وعلامة مصرية مسجلة مثل نهر النيل والأهرامات”” فيما يمارس المصريون العادات ذاتها التي كان يمارسها الأجداد منذ آلاف السنين والتي خلدوها على جدران معابدهم العظيمة.

وإذ ينظر الدكتور أسامة الغزالي حرب للاحتفال بشم النسيم بأنه احتفاء برمز شعبي للأمة المصرية، يؤكد احد المعنيين بالدراسات الثقافية التاريخية وهو إبراهيم عناني عضو اتحاد المؤرخين العرب ان الاحتفال بشم النسيم اصله “فرعوني” موضحا ان المصريين القدماء كانوا يطلقون على هذا اليوم “شموه” واعتبروا هذا اليوم “عيدا للربيع والحب” حيث كان المصري القديم يستيقظ مبكرا في الصباح ليهدي لزوجته “زهرة اللوتس”.

فالاحتفال بشم النسيم علامة دالة على معنى الهوية للمصريين كشعب واحد، قدم للعالم قبل نحو خمسة الاف عام ابهج الأعياد الإنسانية فيما يعبر احتفال شم النسيم حقا عن مدى ثراء التراث المصري في يوم “يعادل بمساواة بين الليل والنهار” وكان المصريون القدامى يحرصون على الاستيقاظ في هذا اليوم قبل شروق الشمس.

وفي كتاب صدر في بريطانيا بعنوان “الحضارات”، كان من الدال ان تقترن العروض والمعالجات الصحفية لهذا الكتاب بسرده المبتكر في الصحافة الغربية بصور لمؤلف الكتاب دافيد اولوسوجا وهو يقف عند أهرامات الجيزة الشامخة فيما تقول ادبيات التاريخ ان المصريين القدماء كانوا يحتفلون بشم النسيم بتجمعات قبالة “الواجهة الشمالية للهرم الأكبر”.

اما الكاتب الروائي والنائب البرلماني المصري يوسف القعيد، فيستعيد وقائع الاحتفال بشم النسيم في قريته المصرية ويقول:”كنا نخرج الى نهر النيل القريب من قريتنا يحتضنها فرع رشيد ومعنا البيض الملون” لافتا الى أن “الألوان في حياة القرية لها إيقاع خاص”.

وان اقترن شم النسيم دوما بالحدائق والزهور والأشجار في سياقات ثقافة الجمال، فان مصر مع تدشين “حديقة النهر الأخضر” في العاصمة الإدارية الجديدة بمساحة تزيد على الف فدان قد كتبت صفحة جديدة ومضيئة في “ثقافة الجمال” التي تعد الحدائق من تجلياتها بينما تدعو هذه الحديقة المصرية بمواصفاتها العالمية المبدعين لابداعات جديدة على مستوى هذا الإنجاز الرائد في ثقافة المكان ككل.

وحسب بيانات معلنة فان طول حديقة النهر الأخضر يصل الى اكثر من 10 كيلومترات وتزيد مساحتها على الف فدان مما يجعلها من اكبر الحدائق في العالم “وهي حديقة تحترم الطبيعة الطبوغرافية للمكان وتتناغم مع النظام البيئي العام وستوفر مناطق ترفيهية بمعايير عالمية وسيتمتع بها جموع المصريين من مختلف شرائح المجتمع” ومن الطبيعي ان تكون بعد اكتمالها مقصدا للمحتفلين بشم النسيم.

وحديقة النهر الأخضر التي تتميز بالتنوع الكبير في الغطاء النباتي بما يعكس ثراء البيئة النباتية الطبيعية المصرية تشكل بحق اسهاما جوهريا مصريا في ثقافة الجمال وعالم الحدائق الذي حظى ويحظى بحضور ثقافي يتجلى في ابداعات الأدب والفن حتى يحق الحديث مثلا عن ” حدائق الأدب وادب الحدائق”.

فلا ريب أن حديقة النهر الأخضر في العاصمة الإدارية الجديدة تشكل “حاضنة جديدة للجمال في ثقافة المكان المصري” فيما تقترن الحدائق في الذائقة المصرية بالحميمية والبهجة ومن ثم تتدفق جموعهم في الأعياد وتصل هذه الاحتفالات لذروتها في أعياد الربيع او “شم النسيم”.

وكانت كل المحافظات قد أكملت استعدادتها للاحتفال اليوم بشم النسيم وأعلنت عن فتح الحدائق والمتنزهات اليوم وتستقبل اربع حدائق بالقناطر الخيرية المحتفلين بشم النسيم بأسعار رمزية، فيما نقلت جريدة الأهرام عن مدير عام ري قناطر الدلتا المهندس محمد الصادق قوله ان “حديقة عسلة المطورة” والتي تتضمن آلاف الأشجار والنباتات النادرة على مستوى منطقة الشرق الأوسط تستقبل أيضا الزائرين.

وشم النسيم يكتسب مذاقه المميز في حدائق شهيرة مثل الأورمان والأسماك والحيوان والزهرية والمتحف الزراعي بالدقي، فضلا عن حدائق انطونياديس بالأسكندرية والنباتات بأسوان وغيرها من الحدائق العامة على امتداد الخارطة المصرية.

وتحرص حدائق مصرية على احتفالاتها التاريخية بأعياد الربيع مثل “حديقة الأورمان” التي تستقبل اطلالة الربيع بمعرض سنوي للزهور والنباتات يستمر على مدى شهر كامل فيما يرجع تاريخ هذا المعرض الربيعي الشهير لعام 1933 وقدر عدد الزائرين لمعرض هذا العام بنحو مليون شخص وأقيم على مساحة 14 فدانا أي قرابة نصف مساحة هذه الحديقة المصرية الشهيرة بمحافظة الجيزة.

واذا كان معرض الزهور والنباتات بحديقة الأورمان يعد الأكبر من نوعه في العالم العربي وتحول الى حدث “ثقافي واقتصادي مميز في الاجندة الثقافية المصرية” فان مكتبة الأسكندرية اصدرت كتابا بعنوان “حديقة الأورمان النباتية” ليكون باكورة سلسلة ثقافية لتوثيق الحدائق المصرية التي تحظى بأهمية تاريخية وجمالية مميزة فيما يشير هذا الكتاب الى ان حديقة الأورمان التي أقيمت عام 1875 استوحت نموذج “غابات بولونيا الباريسية”.

ومصر التي تحتفل اليوم بشم النسيم وثقافة الجمال تشهد اهتماما واسع النطاق بالحدائق كعلامة اصيلة في ثقافة الجمال حيث تعكف “اللجنة القومية لحماية وتطوير القاهرة التراثية” على انجاز عملية “احياء حديقة الأزبكية واحياء وتوثيق النباتات في هذه الحديقة القاهرية الشهيرة والتي يتردد اسمها في كثير من الكتابات الثقافية التاريخية”.

وفي عقود مضت بالقرن العشرين، شهدت حديقة الأزبكية حفلات لكوكب الشرق ام كلثوم فضلا عن بعض مشاهير الطرب والغناء العربي كعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش بينما بدأت المرحلة الأولى لمخطط تطوير هذه الحديقة التاريخية الذي يتضمن إعادة استزراع الأشجار والنباتات النادرة وربط الحديقة بالمسارح المجاورة وإعادة احياء “كشك الموسيقى” وتنظيم الحفلات الفنية والثقافية بحيث تعود “حديقة الأزبكية مركزا ثقافيا وفنيا” حسب تصريحات صحفية لرئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري المهندس محمد أبو سعدة.

وكذلك يجري العمل على قدم وساق لتطوير حدائق تاريخية مثل “حديقة الأندلس” التي تعد من اعرق واقدم الحدائق في القاهرة الكبرى وحسب تصريحات منشورة لرئيس مجلس إدارة الحدائق المتخصصة محمد سلطان فان عملية تطوير شاملة تجري لحديقة الأندلس “التي تعد من الحدائق التراثية في مصر” موضحا انه تم وضع خطة لاعادة الحديقة الى الشكل الذي كانت عليه عند بداية انشائها عام 1929.
وفي سياقات ثقافة الجمال، تزهو مصر بالمتحف الزراعي المصري والمساحة الخضراء المحيطة به الذي “يعتبر اول متحف زراعي في العالم”ويضم عشرة مبان من بينها “المقتنيات التراثية والقطن والزراعة في العصر اليوناني والمجموعات العلمية والمجموعات النباتية والزراعة المصرية القديمة والمكتبة الثقافية التي تحوي كتاب وصف مصر”.

وتشكل حدائق في مدن مصرية مثل “حديقة الملاحة” في السماعيلية دلالات تاريخية ووطنية باعتبارها شهدت احداثا مهمة في التاريخ الحديث للمصريين مثل حفر قناة السويس وحرب الاستنزاف كما تضم مدينة اسوان “جزيرة النباتات” التي تعد من اندر الحدائق النباتية في العالم فيما أفادت تقارير ان “خطة ستوضع لتطوير حديقة انطونياديس” التاريخية في الأسكندرية.

وإذ يقترن التاريخ المصري المديد بنباتات مصرية ومنها زهرة اللوتس المصرية الأصيلة”، فان “واحدة من حدائق اللوتس النادرة اقيمت داخل نادي المعادي كما ان احدى الجمعيات الخاصة اقامت بجوار هذا النادي حديقة اخرى جميلة لتربية زهرة اللوتس المصرية”.
وفيما يقترن احتفال “شم النسيم” عند المصريين ” بقلب الربيع واعياده” فان شعوبا مختلفة حول العالم تحتفل على طريقتها الخاصة وهويتها بالربيع مثل اليابانيين الذين يتجمعون في بداية هذا الفصل تحت أشجار زهور “الساكورا ذات الألوان البيضاء والوردية الفاتحة” ويقيمون ولائم تحمل اسم “هاتامي” والتي تعني مشاهدة الورد.

ولأن الأمر يتعلق في حقيقته بالهوية فان زهور “الساكورا” مطبوعة على صفحات جوازات السفر اليابانية كما ان اليابانيين نقشوها على عملاتهم المعدنية ورسموها على العملات الورقية إضافة لوصف الجميلات بهذه الكلمة.

وجمال الطبيعة ملهم دوما لابداعات ثقافية جديدة فيما كانت جائزة بوليتزر الأمريكية في الرواية لهذا العام قد انتصرت لهذا النوع من الابداع عندما منحت مؤخرا لريتشارد باورز عن روايته “مظلة أوراق الشجر”.

وعمد مؤلف هذه الرواية “لنوع من الحكي يتماهى مع الأشجار ويتنوع مابين فروع واغصان واوراق وجذور”ومن خلال “الأشجار وقصصها مع اشخاص مختلفين” يطرح ريتشارد باورز رؤاه حول الطبيعة والبيئة فيما كان نقاد ثقافيون في الصحافة الغربية قد وصفوا هذه الرواية بأنها بأنها “من افضل ما كتب عن الأشجار”.

انها الأشجار الحاضرة دوما في احتفالات المصريين بشم النسيم والتي تجسد عشقهم لكل ما هو جميل وملهم لمبدعين في كل مكان حول العالم مثل ريتشارد باورز الذي تألق بنعومة السرد وحيل الفن في “عالم الأشجار الرحب والحنون والبديع”.

وكما يلاحظ وزير الثقافة الأسبق والكاتب والأكاديمي الدكتور جابر عصفور، فان الطبيعة المصرية الجميلة تنطوي على ما يثير شغف المبدع سواء كان نحاتا عظيمل مثل محمود مختار او شاعرا كبيرا مثل محمود حسن إسماعيل صاحب “أغاني الكوخ” وكلاهما سعى بفنه “لاكتشاف اسطورة الوجود المتجدد للحياة على ضفتي النيل”.

واذا كان المستشرق الإنجليزي ادوارد لين الذي زار القاهرة عام 1834 قد توقف مطولا امام احتفال المصريين بشم النسيم وقدم وصفا مفصلا لهذا الاحتفال مشيرا الى حرصهم على التبكير بالتوجه لمناطق ريفية او حدائق والتنزه في النيل فان مثقفا مصريا مثل الدكتور أسامة الغزالي حرب يرى اليوم ان “معنى ومغزى شم النسيم يتبلور ويتجسد بأجلى صوره في رأس البر حيث يلتقي النيل والبحر” وحيث تتضافر أنشطة الزراعة والصناعة والصيد لتوفر البيئة الأمثل والأجمل للاحتفال وممارسة طقوس شم النسيم العريقة.

والطريف في العصر الرقمي الآن ان بعض الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تتضمن ذكريات الاحتفال بشم النسيم وأحاديث مبهجة عن “الفسيخ والملوحة والأسماك المدخنة او الرنجة”، فيما تجسد مأكولات المصريين في الاحتفال بيوم شم النسيم معاني “الثقافة الغذائية للشعب الواحد” بينما يحمل هذا اليوم بمأكولاته وطقوسه وذكرياته دلالات مفعمة برائحة مصر في كل مكان..انه يوم للجمال يبوح بأسراره المتجددة لشعب يعشق كل جميل!.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى