في الكلية الحربية.. دمعة و” زغروطة” | بقلم هاني بدر الدين
كنت أتفاجأ عندما أشاهد أما مصرية لشهيد، تصر على أن ترتدي الأبيض وتصدح بـ”الزغروطة” عند إبلاغها بخبر استشهاد نجلها الضابط، كيف تستطيع أن تغلق خزائن حزنها، وتفتح شلالات الفرحة وهي تهديه عريسا للسماء بدلا من الحزن، وتعلو الابتسامة ملامح وجهها بينما تنهمر الدمعات من عينيها.
بالقطع ليست الأم المصرية إنسانا عاديا .. تعيش في مراثون طويل منذ بداية الحمل، لتتحمل مشاقه وآلامه، وصولا إلى المخاض العسير، وتتناسى كل ذلك بمجرد أن ترى وليدها بين ذراعيها، لتبدأ مرحلة جديدة من الكفاح والمعاناة، عبر أيام الزمن، ولكن بصبر وحب، حيث تختلط الآلام مع الفرحة.
تلك الصور تطايرت أمامي وأنا أشاهد فيلما عن استقبال الكلية الحربية، لطلبة الكليات العسكرية في أول أيامهم بها، ولا يمكن أن أنسى أبدا لقطات أهالي الطلبة وهم يودعونهم بالقبلات والأحضان، بالزغاريط والدموع، بالأمل والخوف.
أما القبلات والأحضان فهي عادية ومتوقعة، بسبب الفراق الذي ربما يكون الأول من نوعه، ما بين الأم وما بين نجلها، الذي ظل في أحضانها لسنوات طويلة، سهرت الأيام والسنين من أجل أن تراعيه طفلا حتى صار شابا قويا، وبدوره فإن هذا الشاب يحمل ما بين جنبيه روحا تفيض بالحب لأسرة ووطنا، وفي بداية الطريق لاستلام الراية والحفاظ على “المحروسة”.
أما قبلات شباب الضباط، على يد الأم والأب، فهي قبلة عرفان بالجميل والوفاء، للأبوين، ومن بعدهم للوطن، وهي شهادة من الشاب أنه على استعداد للتضحية بكل ما يملك، حتى روحه التي بين جنبيه، من أجل أن تظل أعلام مصر خفاقة، وراياتها مرفوعة، كرامتها مصانة.
وأما الزغاريط والدموع، فهي التي تحدثت عنها في بداية السطور، فرحة لا توصف بأن طفلها صار رجلا قويا، وفاز بأن يكون ضابطا من ضمن ضباط الجيش المصري العريق، صاحب البطولات التي لا تنسى، قاهر الهكسوس والصليبيين، ومحرر القدس وحامي حمى أرض المحروسة، وأكبر فرحة أن الأم نجحت في أن تربي طفلها ليفوز بشرف العسكرية المصرية.
وأما الدموع، فهي دموع الخوف من غدر الأيام، بسبب موتورين لا يعرفون من الدين شيئا، ومن أعداء من أبناء الوطن، باعوا ضمائرهم من أجل حفنة من النقود، ولا يعرفون أنهم لن يجدوا مكانا يتمتعون فيه بصرف ما نالوه من ثمن بخس لبيع الأوطان حيث تلاحقهم الصقور ورجال الظل ثأرا للشهداء.
وتذكرت اللواء أركان حرب جمال أبو إسماعيل مدير الكلية الحربية، حين قال لنا أن ذلك اليوم هو يوم لا ينسى في تاريخ طلبة الكليات العسكرية وكل أعضاء هيئة التدريس، وترن في أذناي كلمته ” اخترنا أكفأ الرجال لنيل أشرف المهام، وهي شرف الجندية في قواتنا المسلحة الباسلة ومصرنا الغالية “.
أخيرا.. كانت اللقطات توضح دموع الأمهات والآباء تنهمر عند لحظة الفراق، وهم يودعون حماة الوطن عند أبواب الكلية الحربية، لتضئ مستقبل شباب جديد فخر لجيش المحروسة، وانسالت دمعاتي وأنا أتذكر أن نجلي يتمنى أن يلتحق بالكلية الحربية ويكون ضابطا في جيش الكرامة.