في الذكرى الثمانين لمولده : عبد الرحمن الأبنودي «قبس من روح مصر المبدعة»
إذا كان الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي الذي تحل اليوم “الأربعاء” الذكرى الثمانين لمولده قد طلب من المصريين ألا ينسوه أبدا بعد رحيله من الحياة الدنيا فله أن يطمئن لأنه باق في وجدان مصر والمصريين. ولئن قال عبد الرحمن الأبنودي :”امايه وانت بترحي بالرحى على مفارق ضحى..وحدك وبتعددي على كل حاجة حلوة مفقودة.. متنسيش يامه في عدودة..عدودة من اقدم خيوط سودا في ثوب الحزن..وحطي فيها اسم واحد مات” فكيف للمصريين أن ينسوا “شاعر البيوت والغيطان” الذي ظل يحلم بالبيوت “كحبات الخرز” وكيف لهم أن ينسوا “فاطمة قنديل” و”احمد سماعين” ؟!.
وواقع الحال أن عبد الرحمن الأبنودي الذي قضى في الحادي والعشرين من ابريل عام 2015 ، حلق بقصيدة العامية المصرية لآفاق بعيدة وبالغة الثراء الإبداعي وحقق فتوحات غير مسبوقة لهذه القصيدة لتسكن للأبد في روح وذائقة رجل الشارع.
و”الخال عبد الرحمن الأبنودي ” كما يحلو لكثير من الشعراء والكتاب وصفه كان حكاء عظيما إلى جانب موهبته المتدفقة في شعر العامية المصرية فيما تبقى شخصياته الشعرية المتوهجة بشمس الجنوب مثل “يامنة” و”فاطمة قنديل” وزوجها”حراجي القط” حاضرة دوما في الوجدان المصري.
والشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذي ولد في الحادي عشر من ابريل عام 1938 في بلدة أبنود بمحافظة قنا في صعيد مصر لأب يهوى الشعر ويدرس اللغة العربية حاضر دوما بأعماله الثقافية والتي يدخل بعضها بامتياز في التاريخ الثقافي المصري مثل “السيرة الهلالية” التي تضم نحو مليون بيت من الشعر والتي عكف لنحو 20 عاما على جمعها وتدوينها بعد أن استمع لها من رواة السيرة وشعراء الصعيد.
وصاحب كتاب “ايامي الحلوة” الشهير “بالخال” بقى حتى اللحظة الأخيرة مرتبطا بهموم المصريين وتطلعاتهم وأشواقهم في حياة كريمة حرة وعادلة فيما جاءت إبداعاته الشعرية التي كانت وستبقى علامة في شعر العامية المصرية لتجسد هذا الموقف المبدئي لشاعر ومثقف مصري كبير كان بحق “صديق الشعب ولسان حال رجل الشارع” وهو الذي أبدع ديوان “أنا والناس” كما شارك بإبداعاته في تطوير الأغنية المصرية.
وفي سياق الاحتفال بذكرى مولده تقيم “مكتبة المستقبل” التابعة لجمعية مصر الجديدة أمسية اليوم “الأربعاء” ترصد علامات في مسيرته الإبداعية الثرية ودوره الرائد في شعر العامية المصرية وهو الذي شارك أيضا في كتابة بعض حوارات الأفلام فيما فاز بجائزة الدولة التقديرية عام 2001.
وبفضل عبد الرحمن الأبنودي شهدت قصيدة العامية المصرية “نقلتها النوعية التاريخية عبر لغة متفردة استحوذت على إعجاب النخب ورجل الشارع والجماهير العريضة معا” وستبقى هذه القصيدة مدينة بالكثير للشاعر الذي رحل عن الحياة الدنيا ولكنه يبقى حاضرا في الوجدان المصري والعربي.
وفي آخر تصريحاته قبيل وفاته قال عبد الرحمن الأبنودي :”منذ أن رمى الله الشعر في حجري وأنا أراعي الله والوطن في كتاباتي ولم أكتب شعرا ضد الوطن أو سعيا خلف المال أو ضد المباديء” فيما لن تنسى ذاكرة الوطن والشعر قصائده الملهمة لروح المقاومة عقب حرب الخامس من يونيو 1967.
وصاحب “وجوه على الشط” و”عدى النهار” و”احلف بسماها وبترابها” و”إبنك يقول لك يا بطل” كان قد اختار الإقامة منذ سنوات في قرية “الضبعية” بمحافظة الإسماعيلية فيما كان تراث الصعيد طاغيا على بيته في تلك القرية القريبة من شط القناة.
والأبنودي الذي ابدع “الأرض والعيال” و”الزحمة” و”جوابات حراجي القط” و”الفصول” انحاز لثورة 30 يونيو 2013 كثورة مصرية تشكل علامة تاريخية في نضال المصريين من اجل المستقبل الأفضل تحت إعلام وطنهم وهويتهم الجامعة.
وارتبط عبد الرحمن الأبنودي بصداقات وثيقة مع كبار المثقفين المصريين والعرب وفي مقدمتهم الشاعر الراحل أمل دنقل والروائي الراحل يحيي الطاهر عبد الله و الأديب النوبلي نجيب محفوظ والكاتبين الروائيين جمال الغيطاني وحمد المنسي قنديل والشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش فضلا عن الروائي السوداني الراحل الطيب صالح وفنان الكاريكاتير الفلسطيني الراحل ناجي العلي.
ولاريب أن عبد الرحمن الأبنودي من شعراء العامية المعدودين الذين تمكنوا من الانطلاق بقصيدته المصرية للفضاء العربي الواسع من المحيط إلى الخليج وهو الذي نال أرفع جوائز الدولة في مصر ولم يتخل أبدا عن “مشروعه الإبداعي الكبير”.
وبكلماته المبدعة تغنى عبد الحليم حافظ وشادية ووردة الجزائرية وفايزه أحمد ونجاة الصغيرة وصباح ومحمد رشدي وماجدة الرومي ومحمد منير لتصل إبداعاته لأكبر عدد ممكن من الجماهير على امتداد الأرض العربية وكل من يعرف العربية في العالم.
وتميز الأبنودي بقصائده التي يرددها الشعب في شوارع المحروسة وأرض الكنانة” وعلى امتداد الأرض العربية ليقدم للشعر أمثولة إخلاص ويثبت أن الإبداع الحقيقي لا يعرف العزلة عن الجماهير دون أن يعني ذلك أبدا الابتذال أو الخفة ومخاصمة ماهو عميق وحقيقي وإنساني.
ورأى عبد الرحمن الأبنودي أن “الشاعر صوت الأمة وضميرها اليقظ المنتبه والسابح ضد التيار فيما دافع بصلابة عن حرية الإبداع
وإذا كان السؤال الكونى مازال يتردد بقوة: هل ينجح الشعر فى تغيير العالم؟! فإن عبد الرحمن الأبنودي أحد الشعراء الكبار الذين قدموا إجابة لهذا السؤال الكبير وتمكن عبر شعره بالفعل من تحقيق نوع من التغيير الإيجابي لدى المتلقي.
ومن نافلة القول أن الشعر يؤثر ويتأثر ويتفاعل مع بقية الفنون ولابد من انفتاحه على جديد المشهد العالمي محتفظا بنسغه المصري دون تعصب مقيت أو شوفينية تحجب الحقائق وبريئا من أصفاد وأغلال الانغلاق والظلامية ومتفاعلا مع حركة الشعب نحو أهدافه الكبرى وواصلا بين المرئي واللامرئي وهو ما يمكن تلمسه بوضوح في قصائد عبد الرحمن الأبنودي.
ولا جدال أن الأبنودي يجسد مقولات مثل أن الشعر كذروة من ذرى الفن ترياق مضاد لنزعة التسليع وقيم السوق المتنامية في زمن العولمة كما أن القصيدة بجمالها الداخلي وجوهرها المتفرد مازالت تبرهن على قدرة المبدع الفرد بروحه الثرية ووهجه وتوهجه وحلمه وطموحه وبصيرته في تحقيق القيمة المضافة إبداعيا وبصورة تتحدى الإنتاج النمطي الجماعي فهي لا تستنسخ الكائن وإنما تحلق نحو ما ينبغي أن يكون.
ولم تخل مسيرة المبدع الكبير عبد الرحمن الأبنودي من تمرد على القبح والكوابح المتزمتة ليبرهن على أن الشعر محاولة لا تنتهي للإجابة على سؤال الفن المتمرد على كل معيار وأمثولة وأنماط وأحكام مسبقة والمنفلت من كل تحديد والمتحرر من كل الحدود إلا حدود الفن إن كان للفن حدود.
والقصيدة الأبنودية رد اعتبار للذات وسط زحام الكائنات وهي كذلك سعي ابداعي بحساسية الشاعر الحق لتوليف صيغة تمزج بين التجربتين الفنية والإنسانية فتتناغم المتناقضات وتتصالح الأضداد ويتوالى الجمال ضوءا ولونا وصوتا ورائحة وعبقا وغيوما وأصداء وواقعا كالخيال وخيالا كالواقع!.
فقصيدة الأبنودي بجوهرها المتفرد كلمات ممسوسة بروح الشعب وقبس من روح مصر الخالدة تجد طريقها لكل المصريين كما حدث في قصائد خالدة رددها رجل الشارع في سياقات تاريخية لحركة الكفاح الوطني والنضال القومي والسعي الإنساني المشحون بالقلق الخلاق للإجابة على أسئلة الوجود الكبرى.
ومصر التي أنجبت هذا الشاعر الكبير ستبقى وفية لمعنى التغيير الإيجابي كفعل ومعنى يدخل في باب الشعر وأسئلته ومن بينها السؤال الكونى الذى تردد ويتردد بقوة فى طروحات عديدة :”هل ينجح الشعر فى تغيير العالم ؟”.
وسيتوقف التاريخ الثقافي طويلا أمام “الأبنودي الذي نسج من كلمات العامية المصرية قصيدة تسهم في مستقبل أفضل لشعوب الأرض” وهي مسألة تكتسب المزيد من الأهمية مع جدل الحداثة ومدى أهمية الشعر للحياة الإنسانية وتجذره فى القيمة الوجودية للإنسان.
وإبداعات الأبنودي تمزج في كثير من الأحيان بين الثقافى والسياسى وحظت بحضور متوهج فى ضمير أمته وشاركت فى منعطفاتها وتحولاتها الكبرى بقدر ما آمن هذا الشاعر المصري الكبير بأهمية الشعر فى الحياة العربية ودوره فى صياغة معنى جديد لهذه الحياة.
ومن هنا يمكن القول دون مبالغة أو غلو أن عبد الرحمن الأبنودي يشكل قامة شعرية كبيرة وخالدة فى أمة أنجبت شعراء كالمتنبى وأبو العلاء المعرى وأبو نواس وأحمد شوقى وأحمد عبد المعطى حجازى وأمل دنقل وادونيس وعبد الوهاب البياتى ونزار قبانى ومحمود حسن اسماعيل وبدر شاكر السياب ومحمود درويش وممدوح عدوان وسميح القاسم.
ولئن ذهبت طروحات عديدة لأهمية أن يتحالف الشعر مع التفاصيل اليومية للحياة ورجل الشارع دون أن يكون ذلك على حساب الجماليات التى تبقى الشعر شعرا فقد حقق عبد الرحمن الأبنودي هذه المعادلة الصعبة وبرهن على أن الشاعر الحقيقى يبقى حيا فى وجدان أمته…يمنح مجدا للكلمة بقدر ما منحته المجد..يمنحها فرحة الحلم وشرفة رحبة على مستقبل يستكشف مواطن الحق والخير والجمال..فهل هناك مجد اكثر من ذلك؟!.
في الذكرى الثمانين لمولده :سلام على من منح مجدا للكلمة ومنحها فرحة الحلم وشرفة رحبة على مستقبل يستكشف مواطن الحق والخير والجمال..سلام على شاعر المصريين والحاضر دوما في وجدانهم لأنه “قبس من روح مصر المبدعة”.