غروب الخريف | بقلم د. ضحي اسامه راغب
الخريف دائما ضيف خفيف .. يروي الأرض العطشة التي أرهقتها درجة الحرارة المرتفعة حتى أنها كادت أن تموت من كثرة العطش، ويسقي الأرض بقطراته حتى يخرج منها أجمل العطور، ويسعدها بهذه القطرات، ومن كثرة فرحتها به تفرح في هدوء وفي صمت، وتبدأ في إسقاط أوراقها الضعيفة التي هرمت، وتخرج عطرها الفواح الذي يعم في كل أرجاء المكان، وبعد أن يسقط ورقها الهرم فإنها تعتري وتسقط الرداء الذي يداري جسدها الفتي، الذي قد حان وقته أن يغسله ماء المطر، ولكي يتمتع بشمس الخريف التي أنتظر كثيرًا على أعتابها حتى تأتي له بكسوة من الذهب أنيقة جدًا ورقيقة، وحتى تروى جسده بقطرات الندى، وترفع يده إلى أعالى السماء حتى يلوح للطيور ويرتدي معطف بلون السحاب، ويراقب الشمس وهي ذاهبة بعيدًا.
إن فصل الخريف ليس فقط هو ثالث فصول السنة، بل أنه أيضًا قد جمع كل فصول السنة معه، حيث أن في هذا الفصل الخلاب يحدث تصالح بين المطر والشمس، ويحدث تساوي بين الليل والنهار، حيث أن هذا الفصل يحضر لنا الدفء قبل قدوم فصل الشتاء، ويحضر لنا الزهور وقطرات الندى، ويؤثر في كل الكون عندما ينشر ألوانه في كل مكان، إن هذا الفصل من أجمل الفصول، هذا الفصل الذي عندما يقدم لنا فإنه يؤثر الجميع بجماله، وينتظر قدومه الجميع، فتتخلص الأشجار من أوراقها الذابلة لتقدم لنا أوراق جديدة، وثمار جديدة فيتلون كل الكون بلون الأشجار أحمر، أو برتقالي، أو أصفر، وفي هذا الفصل ترى الغيوم التي تبذر أمطارها الخير في الأرض وليس فقط الثمار، ويسعد القلوب عندما تساقط قطرات المطر، وتأتي رياحه برائحتها الخلابة لكي يسقط الورق الهرم ويكسي الأشجار بالأوراق الجديدة، وفيه تبدأ العصافير في التوديع بتغريدها، وتعلن أنها تبحث عن ارض تهاجر إليها تكون أكثر دفئًا من الشتاء الذي سوف يأتي ببرده.
هو فصل إعادة تهيئة الأرض والأشجار لموسمٍ جديد، هو فصل الحياة، لكن بصورةٍ أخرى؛ ففيه تنفض الأشجار أثوابها القديمة، لتتهيّأ لارتداء أثوابٍ زاهية، يانعة، وجديدة، ورغم أنّ معظم الناس يربطون فصل الخريف بالكآبة والحزن إلّا أنّه في الحقيقة هو فصل الجمال المتفرد، وكأن الأرض تستريح فيه من جميع أعبائها، فيهدأ صخبها، بعد أن تخرج من زحمة الفصول الأخرى، من مطر الشتاء ورياحه وبرودته القاسية، ومن فصل الربيع ومزاجيته وتزاحم زهوره وأوراقه، ومن لسع حرارة الصيف، وزحمة قطف الثمار، ليأتي فصل الخريف الوادع الهادئ الجميل، الذي ليس فيه بردٌ لاسع، ولا حرارة لا تُطاق، بل فيه جوٌ لا يليق إلا به.
وفي الخريف، ترتدي أوراق الأشجار ذلك الثوب المتدرّج بين الأحمر والأصفر والشاحب، وكأنها تتوحد مع ألوان الغروب، لتشكل لوحةً ربانيةً مذهلة ورائعةً، تنعكس فيه الأضواء، خصوصاً أن شمس الخريف شمسٌ خجولة، لا يمكن أن تلسعك بحرّها الشديد، ولا تسمح للغيمات أن تحجبها عنك بشكلٍ تام، بل إنّ الخريف يعري كل هذا لتظهر أغصان الأشجار على فطرتها وكأنّها تعيد تشكيل الحياة من جديد.
يقول الشاعر الروسي المعروف “بوشكين ” “أيها الخريف أي غرابة فيك تجعلك تشبهني بحزنك كما تشبهني بيوم فرحي”.
هنا تكتسي الأرض بأوراق الشجر، فتصبح كمن يرتدي ثوب العيد الأكبر، فالأوراق الساقطة من أشجاره تجعل الأرض تبدو مثل حوريةٍ بحريةٍ، لا مثيل لها بالسحر والجاذبية، وكأنّ الأوراق تدنو من الأرض، لتُخبرها بأسرارها الكثيرة، ورحلتها مع باقي فصول العام، فطوبى للخريف، وطوبي لهذا الضيف الخفيف.