شويّة دردشة

عندما يتحدث الأغبياء!! | بقلم نصر القفاص

نصر - القفاص - 1

أعجبنى “سائق التوك توك” بقدر ما كشف من جهل وجهالة الذين اعتقدوا أنهم ساسة أو مثقفين.. فقد أطلق هذا الشاب الساذج والعبيط كلاما لا يفهم معناه – هذا شأنه – ليتلقفه من يرون فى أنفسهم “نخبة” للمجتمع.. فإذا بهم يدقون الدفوف ويزفون الجهل محتفين بالكلام الفارغ, باعتقاد أن قدرتهم على ترويجه يمكن أن تقنع الناس وتثير حالة من الجدل.. وإذا كانوا قد نجحوا فى الأمتار العشرة الأولى, فقد فشلوا فشلا ذريعا مع كل خطوة حاولوا أن يخطوها فيما بعد.. فالجهل بعينه حين تحدث مع الجاهل من داخل “التوك توك” قال كلاما عجبا.. يمكننا أن نتوقف معه:

أولا: جهل سائق “التوك توك” جعله يقول أن مصر كانت تمنح قروضا لبريطانيا العظمى.. وهذا غير حقيقى على الإطلاق.. فالحقيقة أن الاستعمار البريطانى كان ينهب ثروات مصر ويوقع على عشر معشارها كديون مؤجلة.. وصحيح أن مصر كانت الدولة الثانية فى العالم التى شهدت خطوط سكة حديد.. لكن السائق الجاهل لا يعرف أن بريطانيا المستعمرة هى التى أنشأت تلك الخطوط لتكريس استعمارها فى مصر, ومن بعدها كانت خطوط السكك الحديدية فى الهند.. وحين يهل علينا من يزعم أنه رجل أعمال, بينما نعرف عنه أنه تاجر عملة لا يختلف كثيرا عن أصحاب شركات توظيف الأموال.. ليقول لنا أن سائق “التوك توك” كشف الحقيقة.. فهذا يدفعنى إلى الاتفاق معه فى أنه كشف حقيقة أمثاله من الجهلة والأغبياء.. فلو قرأ هذا الجاهل أو ذاك التاريخ لعرف أن حكومات مصر المتعاقبة قبل ثورة 23 يوليو, كانت برامجها تقوم على قضية أساسية: “ستعمل حكومتى على مكافحة الحفاء” أى أن المشروع القومى لحكومات ما قبل الثورة كان يتمثل فى السعى لأن يلبس 16 مليون مصرى حذاء!!

ثانيا: حين تحدث الجاهل من داخل “التوك توك” قال عن اليابان أنها جاءت من 100 عام لتدرس التجربة المصرية – هذا شأنه – وأعذره لأن مصر فى تلك اللحظة لم تكن ملكية ولا جمهورية.. بل كانت “سلطانية” بمعنى أن السلطان “حسين” كان يحكمها.. وهى فترة غائمة وغامضة فى التاريخ بالنسبة للجهلة والأغبياء.. أما بالنسبة لليابان فلم تكن أكثر من بقعة غائمة وغامضة أيضا على وجه الكرة الأرضية.. وإن عذرت الجاهل من داخل “التوك توك” فلا أستطيع أن أعذر الجهلة والأغبياء من الذين يمتطون الطائرات الخاصة!!.. ولو أننى حاولت المناقشة بهدوء وعقل فى سياق التاريخ, فقد يتصببون عرقا.. لكن المسافة بين جاهل “التوك توك” وجهلة الطائرات الخاصة لا تفرق كثيرا.. فجاهل الطائرة الخاصة حين يتحدث عن تفتيت الرقعة الزراعية, ليس لديه وقت لقراءة ودراسة مفهوم الإصلاح الزراعى ولا الاتحاد التعاونى.. وكيف تم الانقضاض عليهما بالتحول المباغت من الاشتراكية إلى الانفتاح.. وهو الذى وصفه أستاذنا “أحمد بهاء الدين” حين قال: “عندما يتحالف الجهل مع الفساد تقع الكارثة”.. أما وأن الكارثة قد وقعت, فالمدهش أن أصحابها يحاولون إقناعنا بأنها علم نافع للوطن والبشرية!!

ثالثا: فهمت من سائق “التوك توك” أنه يحفظ نصا دون فهم أو وعى.. لكننى لا أفهم إطلاقا أولئك الذين يبشرون الأمة بالليبرالية وينامون فى فراش اليسار والاشتراكية!! وفهمت من سائق “التوك توك” أنه يتكسب بحرفيته فى القول.. لكننى لا أفهم أن يحاول مصاصو الدماء فى هذا الوطن, إقناعنا بالتكسب من تصدير احتياجات الشعب للمجتمع المتحضر لكى يحصدوا ملايين الدولارات ذهابا.. ثم يفرضوا علينا الاستيراد ليحصدوا ملايين الدولارات إيابا.. فأولئك “البهلوانات” أعجبهم سائق “التوك توك” فاتخذوه فيلسوفا ومعلما ونموذجا.. وظنى أن رائدهم فى ذلك.. هو هذا “العبيط” الذى وقعت مصر فى شراكه بانتخابه رئيسا بعد ثورة 25 يناير!!

رابعا: لا يجوز إطلاقا للذى يعتقد فى نفسه أنه يفكر باعتباره كاتبا مبدعا.. ومهندسا فريدا.. ورجل أعمال ناجح.. وواحد من أهم أثرياء الدنيا أن يمضى على طريق الجهل والجهالة بنفس الأسلوب والمنطق.. فإذا كانت أمواله تجعل نجوما مزيفين فى المجتمع يحتفون به, فهذا لا يعنى أنه صاحب قيمة.. لأن القيمة تمكث فى الأرض أما الزبد فيذهب جفاء!! ويمكنه أن يفهم المعنى من أساتذته الذين يفخر أنهم علموه!! أما إذا اجتهدوا لكى يدافعوا عنه, فأنصحهم أن يعلموه أن 60 سنة فى عمر جمهورية مصر العربية.. تغيرت فيها أمور كثيرة.. فمن شعب كان يعانى الحفاء.. إلى أمة تشكو ارتفاع سعر السكر.. ومن وطن كان يطهو طعامه على “الكانون” إلى أمة تعانى غياب اسطوانة البوتاجاز.. ومن مجتمع كان يعيش على “لمبة الجاز” إلى أمة تنافس الدنيا من حالة الفقر الكهربائى إلى تصديره فى بضع شهور.. ولعلهم يعلمونه مع سائق “التوك توك” أن مينا حين وحد القطرين كان قائدا عسكريا.. وأن عشرات القادة الذين صنعوا تاريخا نفخر به فى هذا الوطن كانوا قادة عسكريين.. فليست “حتشبسوت” غير قائد عسكرى.. كما أن “محمد على” صانع النهضة الحديثة كان قائدا عسكريا.. أما الرئيس “جمال عبد الناصر” فقد كان سبب نكسته فى 67 هو ارتداده إلى مساحة ما يسمونه بالرئيس المدنى.. وبلغت مصر قمة الكارثة حين خلع حسنى مبارك البدلة العسكرية وعاش فى فساد الزى المدنى!!.. ويؤكد ذلك “الجاسوس المدنى” وجماعته التى باعت الوطن خلال بضع شهور فى زى مدنى!!

مصر التى نعرفها ويعرفها التاريخ, كانت تزدهر كلما تولى أمرها قادة عسكريين لديهم وعى بمعنى التاريخ والجغرافيا.. وعرفت معنى الانحطاط والفساد والانهيار كلما حكمها مدنيين لا يهمهم من المدنية غير أن يعيشوا فى العواصم الغربية فرحين بقدرتهم على بيع الوطن!! ولن أذكر أمثلة كثيرة يكفينى فقط الإشارة إلى الخديوى توفيق والملك فاروق غير عشرات على امتداد التاريخ من المبهورين بالتبعية والمحتفين بمصر “القصر” وليست مصر “العشة” كما كان يقول عمنا أحمد فؤاد نجم.. الذى تفاخروا بالقرب منه حيا حتى لا يرفع عليهم حذاءه!!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى