عم محمود زائر الله ..!!| بقلم الداعية الاسلامي خالد الجمل
مايلي قصة حدثت معي شخصياً ليلة أمس..
منذ زمن وانا في الصف الثاني الثانوي كنت اعيش في بيت والدي رحمه الله في منطقة روكسي بمصر الجديدة وكنت مهتم باشياء كثيرة كتعديل السيارات الرياضية وتأليف الموسيقي وكرة القدم والقراءة وغيرها من الامور التي كانت يعتبرها البعض هوايات ولكن بالنسبة لي كانت اكثر من ذلك.. حيث كان كل ماسبق هو شغلي الشاغل الذي امضي فيه ساعات وساعات لا يتخللها فقط سوي التوقف للصلاة.
ونظرا لنشأتي في المملكة العربية السعودية وبقائي فيها طوال عشر سنوات تقريباً فلقد كنت ايضا مولعاً بقراءة الكتب الدينية و دراسة القصص الموجودة في القران الكريم… ونظرا لدرايتي الموسيقية كنت ايضا محباً لسماع اصوات الشيوخ الجميلة في الصلاة وكان وقتها اهم واحدث مسجد في المنطقة مجهز بأفضل انظمة الصوت آن ذاك هو مسجد النور بالعباسية… فبدأت اذهب لصلاة الفجر فيه وما ان دخلت اعجبت جدا بجودة ونظافة السجاد والحوائط والإضاءة… وكل شئ هناك وزاد اعجابي وجود شيخ كبير السن حسن الصوت كان هو من يصلي بالناس إماماً في صلاة الفجر.
ولأن المسجد كان كبير جدا فكان بالكاد يمتلئ بصف واحد تقريبا لذلك كان يسهل مع الوقت ان يتعرف من ياتي الي المسجد لعدة مرات علي من في هذا الصف.
وكنت اجلس في هذا الصف عند المنتصف تقريبا من قبل الاقامة بجوار أناس اكبر مني سناً حيث كان هذا هو حال اغلب المصلين هناك.
وكان يجلس بجواري بقليل في نفس الصف رجل اسمر البشرة ضاحك الوجه جهور الصوت ضخم البنيان عمره تقريبا 50 سنة يلبس جلبابا ريفيا نظيفا مميزا بالوانه المختلفه.
لاحظت وجوده في نفس المكان كلما ذهبت للمسجد .. وكان يقوم قبل الاقامة ويمر علي كل الجالسين تقريبا ويخرج من جيبه زجاجة المسك السوداء المعروفة ويضع علي يد كل من يريد..ولمن حوله يعطي حلوي نعناع صغيرة (بونبوني)، الامر لفت نظري بشدة..!! بل ونظر الجميع وقتها غير اني لم اكن احب رائحة المسك الخام النفاذة كثيرا.. ولكن يوما.. بعد يوم…اصبحت األفها ..بل واشعر انها من شعائر صباح هذا اليوم الذي اصلي فيه معهم جماعة الفجر.
لاحظ هذا الرجل وجودي عدة مرات فتعرف علي بابتسامته البشوشة جدا وبعد سؤاله لي عن اسمي قال لي وانا بقا يا سيدي اسمي عمك الحج محمود.. سألته وحضرتك يا عم الحج محمود بتيجي المسجد في الفجر بقالك قد ايه ? فضحك وقالي (يااااه ياشيخ خالد – قالها لي هكذا) انا باجي هنا بقالي يمكن يجي 10 سنين او اكتر من ايام ما كانوا بيبنوا الجامع لسه..اصلي الفجر وارجع افطر واقرا الجرنان وانزل اروح الشغل.
كان الحج محمود يجلس مع اصحابه في هذا الصف يضاحكون بعضهم البعض بملامح الوجوه فقط حرصا علي قدسية المكان… ومع الوقت… كنت اشترك معهم في هذه الضحكات الخفية اللطيفة .. حتي يؤذن للصلاة ..وما ان نصلي وننتهي .. نشترك في بعض الاحاديث اللطيفة البسيطة ونضحك كثيرا حتي نخرج الي باب المسجد ونسلم علي بعضنا البعض..لنلتقي في اليوم الذي بعده…وهكذا.
شجعني هذا مع الوقت علي الذهاب يوميا تقريبا الي المسجد لصلاة الفجر .. وكنت عندما اتاخر لأيام قليلة بسبب الدراسة او لانشغالي بالسيارات او الموسيقي او غير ذلك.. كانوا يتصلوا بي في تليفون المنزل للإطمئنان عليَّ وسؤالي بكل ود .. لماذا لم اتي لصلاة الفجر..? وكان عم محمود يلقاني عندما اعود للمسجد ويقول لي (انا شايلك النعناع بتاعك يامولانا الشيخ خالد)..!! كل ذلك وانا في عمر لا يتجاوز العشرون.
دارت الأيام…سريعا… صيفا وشتاء.. والحال كما هو والحج محمود في مكانه لا يتغير.. ومرت الايام سريعاً بل وسريعاً جداً… من المرحلة الثانوية ..ثم الجامعة .. فالسنة الأولي ثم الثانية فالثالثة والرابعة… وبعدها مرت سنوااااااات.. ونحن علي نفس الحال.
ثم تغير حالي وانتقلت للعمل في منطقة المعادي ثم للعيش في مكان اخر … وبالطبع انقطع ذهابي الي هذا المسجد لبعد المسافة، كان هذا منذ حوالي 20 سنة تقريبا..!!
وليلة أمس كنت في طريق عودتي من احد الدروس التي كنت القيها قبل السحور في بيت احد الأصدقاء في منطقة اكتوبر .. وفي الطريق اذن لصلاة الفجر.. فاسرعت للحاق بصلاة الجماعة في اقرب مسجد في طريق عودتي .. واذا بي اقف امام مسجد النور بالعباسية .. انظر الي المكان واتذكر كل السنوات التي مضت وقضيتها بين جنبات هذا المسجد الذي كان جديدا لامعا في وقته.. واصبح الان جزعا يغطيه عبق الزمن..حاله كحالنا نحن جميع خلق الله.
ادخل مسرعاً للحاق بالصلاة والحق بالفعل بفضل الله.. واذا بي اشم نفس رائحة المسك التي كان يضعها لنا عم الحج محمود ..!! هي هي.. لم تتغير..!! وبينما انا اسلم وانتهي من الصلاة… اذا بي اري في نفس المكان…في الصف الأول رجل ضخم البنيان يشبه عم الحج محمود..!! بجلبابه الفلاحي المميز ..!! ادقق النظر فأجده هو عم الحج محمود..!! اراه هذه المرة رجل عجوز ..ولكنه ليس بالكهل..!! ظللت انظر اليه لأتأكد ..أهو هو..؟ فوجدته فعلا هو عم الحج محمود..!! جالس كعادته منذ عشرين سنة .. يحرك شفتيه بالتسبيح كعادته بعد الصلاة..!!
اسرعت بصلاة السُنة … ثم توجهت اليه لأسلم عليه..!! واذا به ينظر الي نظرة عميقة ويقول .. (ياااااه ..انت فينك من زمان ياعم الشيخ)..!! في ذهول سألته .. انت فاكرني ياعم الحج محمود … قالي طبعا ..هات ايدك.. واذا به يضع نفس المسك علي يدي.. ويبتسم ابتسامته المميزة .. فاسرعت بتقبيل يده فسحبها وقال لي العفو يا مولانا فينك مش بتيجي من زمان ليه … قلت له.. انا الان مقيم في منزل ابعد من المسجد بكثير في منطقة كذا .. فضحك وقال لي ده انت تدعيلنا بقا ..يا مولانا الشيخ .. قلتله .. العفو يا سيدنا عم الحج محمود … استحلفك بالله ان لا تنساني من دعائك .. قال لي والله سأفعل … دعا لي وهم للقيام فامسكت يده ليقوم .. فقال لي .. الله يقويك يا مولانا بس ماتبقاش تغيب كده عننا كتير .. قلت له طبعا يا سيدنا انا تحت الامر .. وتوجه للخروج من المسجد متكئاً علي صبي لعله حفيده او غير ذلك .. وانا أجلس مكاني انظر اليه واتعجب واسال نفسي سؤالين اثنين:
– لو داوم شخص علي زيارتي يوميا للسؤال عني طيلة ثلاثون سنة ..ثم اصبحت بعد ذلك مثلا رئيسا للبلاد هل هناك اي طلب استطيعه لا البيه لهذا الشخص..؟ ولله المثل الاعلي .. فشخص كهذا يحافظ علي صلاة الفجر في جماعة يومياً منذ اكثر من ثلاثون سنة .. تري كيف ستكون علاقته بالله ان اراد ان يسأله اي شئ يريده..؟
– ياتري… ان كان الله سيحاسب شخص كهذا ويدخله الجنة باذن الله علي قدر اخلاصه في عباداته .. فهل مازلت انا أأمن حساب الله لي.. بل واطمع ان ادخل نفس الجنة التي يدخلها عم الحج محمود.. وعبادتي بهذا التقصير ؟
وهناك عشرات الأسئلة التي جاءة في رأسي بعد ذلك ولكني … اترك لكم باقي الأسئلة او المعاني التي يمكن ان تخرج من ما حدث معي بالأمس … والتي رأيتها بعيني بعد رؤيتي لعم الحج محمود … زائر الله.