كشف الإعلامي عمرو الليثي أسرارا خاصة تنشر لأول مرة عن أوبريت الأرض الطيبة الذي أُنتج في عام 1980، في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وشاءت الظروف أن أكون معايشًا لتلك الفترة، وحكى لي والدي عنها الكثير.
هذا الأوبريت عُرض في عهد الرئيس السادات، ومُنع في بداية عهد الرئيس مبارك، ثم أعيد مرة أخرى للإذاعة بعد إدخال بعض التعديلات عليه، ومنها تغيير صور الرئيس الراحل أنور السادات لصور الرئيس مبارك، وللأسف هناك أعمال فنية ترتبط بفترات زمنية سياسية ويأتي المسئول يمنعها، ثم يجيزها مسئول آخر بعد تطويعها وتوفيق أوضاعها لتتناسب مع المسئول الجديد.
جمع أوبريت الأرض الطيبة والدي المنتج والسيناريست الكبير ممدوح الليثي بموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب والشاعر الغنائي حسين السيد والمخرج الكبير حسين كمال، وكان هذا العمل ميلادًا أيضًا لستة من النجوم المطربين، وكما روى لي والدي أنهم عندما اجتمعوا بالموسيقار محمد عبد الوهاب أخبرهم أنه قرر إسناد بطولة هذا النشيد إلى ستة من المطربين الجدد الذين لم يعرفوا طريقهم بعد إلى شاشة التليفزيون أو أثير الإذاعة، وبدأ يرشح بعض الأسماء ممن ترددوا عليه في منزله وسمع أصواتهم، وكذلك المخرج الكبير حسين كمال والشاعر الغنائي حسين السيد ووالدي ممدوح الليثي، واستقر أخيرا محمد عبد الوهاب على ستة أسماء، ثلاثة من الرجال هم: توفيق فريد ومحمد ثروت ومحمد الحلو، ومن النساء سوزان عطية وزينب يونس وإيمان الطوخي، وبدأت إدارة الإنتاج في دعوة هؤلاء الستة لمقابلة والدي للتعارف وتوقيع العقود، ولم ينس والدي أبدًا فرحتهم جميعا عندما علموا أنهم سيشاركون في غناء نشيد من ألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب، وأيضا عندما وقّعوا عقودا معه سيتقاضى بمقتضاها كل منهم خمسين جنيها بالتمام والكمال.
بدأ الأستاذ عبد الوهاب متبرعا بأجره في إجراء بروفات مع الموسيقيين على عزف وتوزيع موسيقى هذا النشيد مع المطربين الستة الجدد، كان والدي يحضر معه البروفات في بعض الأيام، وقد همس في أذنه سائلا من تتوقع له النجاح من هؤلاء؟ قال إنه يتوقع النجاح للستة، وعاد يسأله من سيلمع أكثر- كلام في سرك- قال من الشبان توفيق فريد ومن الشابات سوزان عطية، واستطرد يقول: سوزان عطية دي حاتكون أم كلثوم لو حافظت على صوتها مرخصتوش.
استغرقت البروفات أوقاتا كثيرة، وفي أحد الأيام التي لم يكن والدي حاضرًا فيها لإحدى البروفات دق جرس التليفون في بيتنا، كان المتحدث الأستاذ محمد عبد الوهاب وفي لهجة غاضبة قال: يا أستاذ ممدوح عايز نمرة تليفون المشير أبو غزالة، خير يا فندم؟ رد بأسف شديد: الموسيقيون سابوا البروفة ومشيوا كل واحد راح يسترزق في حتة فرح أو نايت كلوب أو تسجيل مع مطرب من إخواننا العرب، وسأله والدي في دهشة: طب والمشير أبو غزالة حايعملهم إيه؟ رد بحماس: يجندهم في الجيش، يديهم أمر تكليف عسكري يقعدوا يشتغلوا معايا لحد ما النشيد ده يخلص، إحنا مش بنعمل عمل وطني ولّا إيه؟ وطلب والدي منه أن يمهله فترة قصيرة للتصرف، اتصل على الفور بالموسيقار أحمد فؤاد حسن بصفته نقيب الموسيقيين ليصرخ هو الآخر مستنجدا بوالدي: إنقذنا يا أستاذ ممدوح من محمد عبد الوهاب، أستاذ كبير آه، وموسيقار الأجيال على العين والرأس، إنما اللي بيحصل مع الموسيقيين لا يقبله أحد، وإن شاء الله بسببه هخسر انتخابات النقابة اللي جاية.
وأخذ أحمد فؤاد يقص عليه كيف أن محمد عبد الوهاب استدعى الموسيقيين إلى صالة الصوت باستديو مصر منذ عشرة أيام وأنهم في الأيام الأولى ظلوا يعملون لمدة عشرين ساعة متواصلة دون أي اعتراض، خجلا من محمد عبد الوهاب وتاريخه، وبعد كده بدأوا يزمزأوا، لو حسبتها حاتلاقي الساعة واقفة على الواحد فيهم بعشرة صاغ، واتفق والدي مع الأستاذ أحمد فؤاد حسن على تجميع الفرقة في الغد لتعاود العمل، ووعده طبعا بمضاعفة أجور الموسيقيين، وأعاد الاتصال بالموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، وبادره على الفور: كلمت أبو غزالة؟ الموضوع حضرتك فهمته غلط، يظهر إن واحد من الموسيقيين راح بلغ زمايله إن حضرتك فركشت فمشيوا، وتساءل في براءة: ومين اللي عمل العملة السودة دي؟ ليرد والدي: حانعرف مين ونعاقبه.
ويواصل الليثي الحديث عن أوبريت «الأرض الطيبة»، أنهم استأنفوا البروفات مرة أخرى، بعد أن وعد والدي الأستاذ أحمد فؤاد حسن بمضاعفة أجور الموسيقيين، مكثوا أربعة أيام أخرى في صالة الصوت باستوديو مصر لإجراء بروفات لنشيد الأرض الطيبة، وهمس أحمد فؤاد حسن في أذن والدي: «عبد الوهاب عايش في أيام زمان أيام (رصاصة في القلب)، و(لست ملاكا)، لما كان بيعمل عشرين بروفة على الأغنية قبل التسجيل، مايعرفش إن الدنيا اتغيرت وإن الموسيقيين يدوبك يعملوا بروفة ولّا اتنين، ويسجلوا، ولا يِمْنى على الفَكَّة»،
وكتم والدي ضحكته وهو يسمع عبد الوهاب يقول للموسيقيين: «خلاص ناقص كمان تلات بروفات ونسجل المقطع»، والموسيقيون يكتمون غيظهم، يتبادلون معه ومع الأستاذ أحمد فؤاد حسن النظرات وهم ينظرون إلى ساعاتهم، فكل منهم مرتبط بأعمال أخرى، وانتصرت إرادة عبد الوهاب وتحقق الصعب، واستطاع أن يطبق على الموسيقيين ما كان يفعله في «الحب الأول» و«رصاصة في القلب» و«لست ملاكا».
بدأ الأستاذ حسين كمال باستوديو بالتليفزيون إجراء بروفات تصوير لهذا النشيد، وقد استعانوا بالفنان الكبير محمود رضا وفرقته لأداء الاستعراضات، كانت المفاجأة بالنسبة لهم هي حضور الموسيقار محمد عبد الوهاب إلى الاستوديو للإشراف بنفسه على تصوير النشيد، وأعطى بعض توجيهاته للمطربين والمطربات الجدد، كيف يؤدون التعبيرات سواء بالوجه أو بالأيدي أثناء الأداء، استغرق تصوير هذا النشيد بالاستوديو ستة أيام، لم يتغيب محمد عبد الوهاب يوما واحدا، بل كان تواجده يثير حماس المخرج حسين كمال ومصمم الاستعراضات محمود رضا والمطربين والمطربات الجدد، عُرض النشيد، وحقق نجاحا كبيرا، وانطلق النجوم الستة، كلٌّ يأخذ حظه من النجاح وحسب مجهوده وحسب المساحة التي إرادةا له الله، لمع محمد ثروت ومحمد الحلو أكثر مما لمع توفيق فريد، واستطاع محمد ثروت أن يقوم بأداء أغنية بمفرده، من تلحين محمد عبد الوهاب، وانطلق هو ومحمد الحلو في الغناء في عشرات الحفلات والمناسبات الوطنية، كذلك انطلقت أصوات سوزان عطية وإيمان الطوخي وزينب يونس، وكانت أكثرهن لمعانا سوزان عطية، التي توقع لها الجميع مثلما توقع لها محمد عبد الوهاب أن تكون خليفة أم كلثوم.
وظل توفيق فريد يتردد على مكتب والدي ويطلب فرصا مثل التي أُتيحت لزميليه محمد ثروت ومحمد الحلو، واتصل والدي بالموسيقار محمد عبد الوهاب، وقال له إنك تنبأت لهذا الشاب بأن يكون ألمع النجوم الثلاثة، فلماذا لم تمنحه فرصة الغناء من ألحانك مثلما فعلت مع محمد ثروت؟!، وطلب منه محمد عبد الوهاب أن يرسل له توفيق فريد في منزله، حضر توفيق فريد إلى مكتب والدي متهللا، وبشره بأن محمد عبد الوهاب سيقوم بتلحين أغنية له يكتبها عبد الوهاب محمد، وأن عبد الوهاب محمد وعده بتأليف الأغنية خلال شهر، توفى الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، وتوفى الشاعر الكبير عبد الوهاب محمد، واختفى توفيق فريد قبل أن يغني لهما، كما اختفت من قبل سوزان عطية، ولم تتحقق نبوءة محمد عبد الوهاب بأن يكون توفيق فريد ألمع المطربين الثلاثة، وأن تكون سوزان عطية خليفة أم كلثوم.