عبور وانتصار | بقلم شيرين خالد
ملحمة دُوِنت بحروف من نور امتزجت بدماء عطرة لأبطال أبى كل منهم أن يحيا تحت الاستعمار وآثر الجود بروحه لكي يحمي أرضه وعرضه، هذه الملحمة التي سيخلدها التاريخ ما دامت الحياة، والتي فيها انتصر الإيمان والإخلاص وصوت الحق مدوياً الله أكبر على الظلم والغرور وإن كان عتادهم أكثر وإمدادهم أقوى، هذه المعركة التي شب على ذكرها أجيال تمنى كل منهم لو يعود الزمن ويصبح ممن صاغوا هذا التاريخ بعزة وفخر وفداء غير منقطع النظير.
أكتوبر العزة والكرامة الذي قضى فيه المصريون على أسطورة الجيش الذي لا يقهر وحائط السد الذي لا يمكن عبوره، تغلبت المياه على النيران والعبوات الناسفة وتغلبت الشجاعة على التفوق في التسليح، كما لو أن الله أيدنا بجند من السماء لحماية هذه الأرض التي باركها بتجليه عليها، ارتبطت هذه الحرب العظيمة في أذهاننا منذ الصغر بأشياء كثيرة فنحن جيل نشأ على الاحتفال بمشاهدة أفلام النصر وترديد أغاني الفخر فلا يأتي يوم السادس من أكتوبر إلا ونستعد للاحتفال بنكهات مختلفة .. فتطرب آذاننا بأغنيات الحماسة ” بسم الله الله أكبر بسم الله بسم الله … بسم الله أذن وكبر بسم الله بسم الله “، نتذكر هذا القائد الشجاع ” بطل الحرب والسلام ” الزعيم الراحل محمد أنور السادات صاحب قرار العبور ونشاهد هذا الفيلم الذي يروي قصة حياته بتجسيد من العملاق الراحل الفنان أحمد زكي، ثم نذهب في رحلة ” الرصاصة لا تزال في جيبي ” لنمضي بعدها في ” الطريق إلى إيلات” فتأخذنا ” بدور” في ” العمر لحظة” وما بين كل رحلة وأخرى ننسجم ونتفاعل ونتأثر وتأخذنا الحماسة كما لو أننا جزء من هذه القصص والملاحم الرائعة.
تحقق لنا العبور بفكرة بسيطة رائعة للبطل الراحل ” باقي زكي يوسف ” فعبرنا مانعهم الحصين ثم استبسلت قواتنا المسلحة في الدفاع عن هذه الأرض فنرى سجلا زاخرا ببطولات نفخر بها دوما، هذه التضحيات والبطولات التي لولاها ما كان تحقق لنا النصر وتحررت هذه البلد من هوان الاستعمار، أبطال بذلوا أرواحهم دون أدنى تردد وقيادة حكيمة أدركت أن الحرب لها كثير من الجوانب، فعملت في كل الاتجاهات، فاستخدمت الخداع الاستراتيجي، والإعداد النفسي والمعنوي، بثت في الأرواح العزيمة والإصرار والتضحية والفداء، وفي الوقت المناسب استخدمت الدبلوماسية لحقن كثير من الدماء، وعلى الرغم من عدم التأييد من كثير من الدول العربية إلا أن التاريخ أثبت صحة قرار السلام.
حرب السادس من أكتوبر ملحمة تاريخية تكاتفت وتآزرت فيها كافة الجهود لتتمكن من العبور التاريخي لنجد أن ظروفنا الاقتصادية في هذه المرحلة كانت صعبة جدا إلا أن المصريين كان لا يشغلهم سوى الحرية، وكانوا على أتم الاستعداد لمزيد من التضحيات في سبيلها، وهذا ما يجعلنا نأخذ من التاريخ عبرة.
عبورنا الأول في السادس من أكتوبر كان عبوراً معلوم الوجهة ضد عدو معلوم الهوية، أما عبورنا الواجب الآن فهو الأصعب لأنه ضد أعداء بيننا وداخلنا، فقد كان سبباً كبيراً في نصر أكتوبر الضمير الجمعي والرغبة العامة التي تم ترجمتها لعمل عام كل في مجاله يفعل ما بوسعه ليساهم في التحرر من هذا الهوان، فالاتحاد والهدف الوطني الواحد كان سبيلاً من سبل الخلاص، والآن هذا ما ينقصنا ويجب أن ندركه لأننا بحرب أكثر شراسة، حرب ضد المجهول تكاتفت فيها العديد من العوامل لإفقادنا ما يميزنا من هوية وطنية ودينية سوية سعياً خلف تجريدنا مما يميزنا من إيمان وعزيمة ووحدة لا يمكن لأحد الوقوف أمامها، فمن وحي السادس من أكتوبر نستلهم حلولاً أخرى لنمضي نحو الاستقرار والسبق والتقدم .
وقد بدأ هذا بعبور آخر تأخر كثيرا لكنه تم مؤخرا حين تم عبور قناة السويس الجديدة، هذه الأرض التي روتها دماء شهداؤنا الأبرار ثم رواها عرق أبناؤهم وجهدهم للمضي قدماً نحو مزيد من التقدم والبناء والتنمية.
ما من قوة على وجه الكون تهزم شعباً آمن بحريته ووطنه وبذل روحه طواعية في سبيله، علينا جميعا أن نفتخر بأننا هذا الشعب الذي ضرب أمثلة كثيرة في البطولة والفداء والوطنية، وعلينا جميعا أن ندرك أن هذه الحرية لن تأتي من فراغ فقد دفع ثمناً لها الكثيرون من الأبطال أرواحهم ليتحقق لنا العبورين، عبور السادس من أكتوبر والسادس من أغسطس.
تحية إعزاز وتقدير لكل أم بذلت ابنها في سبيل وطنه، وكل زوجة تكبدت الكثير لأجل هذه الحرية، لكل طفل فقد الأب ليبقى وطننا دائما في سلام، تحية إعزاز وتقدير لكل شهيد بذل روحه كي نبقى نحن سالمين، فمنذ فجر التاريخ كان جند هذا الوطن “خير أجناد الأرض” فهم في رباط إلى يوم القيامة، وقد جاء الوقت ليأخذ كل منا دوره ويحمل سلاحه معلناً استلام راية النضال.
” بالعلم والمال يبني الناس ملكهم .. لم يبن ملك على جهل وإقلال ” هذا هو الحل لنثبت لكل روح طاهرة رحلت عنا في سلام أننا نعلم قدر هذا العطاء ونستحقه، حرب السادس من أكتوبر معركة الفخر والعزة التي منها نأخذ العبر، والآن حربنا ضد الجهل والمرض والتخاذل معركتنا ضد القوى الغاشمة التي تزرع اليأس في نفوسنا أو ترنو إلى التفريق بيننا، لكننا من الماضي نتعلم فلن ننهزم ولن نتخاذل ولن نفرط في قطرة من دماء أجدادنا العطرة بالتفريط في مستقبل مشرق نصوغه نحن بحروف من نور ممزوجة بالعمل والعلم، فمصر جيشاً وشرطةً وشعباً كل يمضي في سبيله لآداء حق هؤلاء الأبطال في الحفاظ على الأرض والعرض.
أكتوبر الملهم دمت لنا درساً في البطولة والفداء والتضحية، رحم الله شهداؤنا الأبرار وأعاننا على هذه المسئولية التي على عاتقنا جميعا حتى لا تذهب تضحياتهم هباءً.
وأخيراً لن أجد أفضل من هذه الأبيات ختاماً، في ذكرى هذا اليوم العظيم :
” أنا إن قدر الإله مماتي لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي
ما رماني رام وراح سليماً مــــــن قديم عناية الله جندي
كم بغت دولة عليّ وجارت ثم زالت وتلك عقبى التعدي
إنني حرة كسرت قيودي رغم أنف العدا وقطعت قيدي
أتراني وقد طويت حياتي في مراس لم أبلغ اليوم رشدي”
حفظ الله مصر دائما بنا ولنا وحفظ جيشها العظيم وشرطتها الباسلة وقيادتها الحكيمة.