سياسات ترامب تهدد مستقبل العاملين الفيدراليين

في دهاليز واشنطن البيروقراطية، تدور معركة أقل صخبًا من الحملات الانتخابية أو سجالات الكونجرس، لكنها أكثر تأثيرًا على مستقبل الدولة الأمريكية ذاتها.
إنها حرب على العاملين الفيدراليين.. أولئك الذين يشكلون العمود الفقري للإدارة الحكومية، من خبراء البيئة إلى محللي الاستخبارات، ومن مهندسي الصحة العامة إلى دبلوماسيي الخطوط الأمامية.
في هذا السياق، يتبنى الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، استراتيجية لم تحظَ بكثير من الأضواء، وهي تفكيك نفوذ النقابات داخل الحكومة الفيدرالية، مستخدمًا أداة قانونية قلّما لُمسَت منذ إنشائها – بند الاستثناء الأمني في قانون العمل الفيدرالي، وفقًا لصحيفة «بوليتيكو» الأمريكية.
لكن القليل يعلم أن هذا البند تم صياغته في الأصل خلال الحرب الباردة، بهدف توفير مرونة للرئيس في لحظات الأزمات القومية الكبرى، وليس كوسيلة لهندسة البيروقراطية وفق أجندات سياسية، لكن ترامب، المعروف بإعادة تعريفه للمألوف، قرر استخدامه كسلاح لتقليص قدرة عشرات الآلاف من الموظفين الفيدراليين على التفاوض بشأن ظروف عملهم، وهو ما قد يُعيد تشكيل توازن القوى بين الدولة والقوى العاملة من جذوره.
أطلق الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب محاولة جديدة لإلغاء حقوق التفاوض الجماعي لغالبية الموظفين الحكوميين،حيث يُنظر إلى هذه الخطوة كجزء من مساعيه لإعادة تشكيل الإدارة الفيدرالية وفق أولوياته السياسية، حتى لو كان ذلك على حساب المكتسبات العمالية التاريخية.
خلال الأسبوع الماضي، وقّع دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا يستند إلى بند نادر الاستخدام ضمن قانون العمل الفيدرالي، يمنح الرئيس صلاحية استثناء وكالات حكومية من حقوق النقابات إذا ارتأى أنها تُعنى في المقام الأول بالأمن القومي، وهو تفسير موسّع وغير مألوف لطبيعة تلك الوكالات، يعكس نهجًا جديدًا في التعامل مع البنية المؤسسية للحكومة الأمريكية.
يغطي هذا الأمر التنفيذي نطاقًا واسعًا من الوكالات الفيدرالية، من وزارات سيادية كالدفاع والخارجية، إلى هيئات خدمية مثل وزارة الزراعة ووكالة حماية البيئة، وحتى الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، كما يفتح الباب أمام وزير النقل لاستثناء إدارة الطيران الفيدرالية وهيئات أخرى من الحقوق العمالية، مما يوسّع رقعة الاستهداف بشكل غير مسبوق.
https://x.com/mog_china/status/1907695506144505861
إذا ما طُبق هذا القرار بالكامل، فسيُحرم حوالي 67% من مجمل العاملين في القطاع الفيدرالي من حقوق التفاوض الجماعي، إضافة إلى 75% من العاملين المنتسبين فعليًا لنقابات،ويُعد هذا التحول الأكبر من نوعه منذ عقود، وفقًا لتقديرات مجلة «Government Executive» الأمريكية، التي تُعنى بشؤون الإدارة الحكومية وتتابع هذه التغيّرات عن كثب.
وتأتي هذه الخطوة الجديدة المعادية للنقابات ضمن سلسلة من الإجراءات المنهجية التي تستهدف تقليص حجم القوى العاملة الفيدرالية وإحكام السيطرة عليها من قبل البيت الأبيض.
فإدارة ترامب تسعى إلى تسريح عشرات الآلاف من الموظفين الفيدراليين الذين تم تعليق عملهم مؤقتًا، رغم أن هناك أحكامًا قضائية أولية تمنع تنفيذ هذه الإجراءات، في الوقت نفسه، تُنفّذ العديد من الوكالات الحكومية تقليصات جذرية في أعداد العاملين لديها، في ما يشبه عملية “تجريف إداري” واسعة.
منذ بداية ولاية ترامب، كانت النقابات الفيدرالية في صدارة المعركة القانونية ضد السياسات الرئاسية الجديدة، فقد تقدمت بدعاوى لإيقاف برنامج “كفاءة الحكومة”، الذي يُشرف عليه الملياردير إيلون ماسك، خشية أن يتمكن من الوصول إلى بيانات حكومية حساسة.
كما تصدّت النقابات لمحاولات تسهيل عمليات فصل الموظفين، وسعت لاستعادة حقوق آلاف العمال الذين تم طردهم من وظائفهم، في إطار مواجهة شاملة للنهج الذي تنتهجه الإدارة.
وفي أحدث جولة من هذه المواجهة، تعهّدت إحدى أكبر النقابات الفيدرالية باتخاذ إجراءات قانونية عاجلة للطعن في الأمر التنفيذي الجديد الذي وقّعه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب.
وفي بيان شديد اللهجة، وصف رئيس الاتحاد الأمريكي لموظفي الحكومة، إيفريت كيلي، هذا الأمر التنفيذي بأنه “هجوم شائن وانتقامي” يستهدف حقوق مئات الآلاف من موظفي الخدمة المدنية الذين يؤدون عملهم بإخلاص، بينهم عدد كبير من قدامى المحاربين، فقط لأنهم أعضاء في نقابة تُعارض توجهات الإدارة، وأكد أن الاتحاد يستعد لاتخاذ إجراءات قانونية فورية لوقف هذا التعدي.
بينما تستند حقوق الموظفين الفيدراليين في الانضمام إلى النقابات والمطالبة بشروط عادلة للعمل إلى قانون إصلاح الخدمة المدنية الصادر عام 1978، والذي شكّل حجر الأساس للحماية النقابية في القطاع العام.
لكن ترامب تجاوز هذا الإطار القانوني الأسبوع الماضي، حين وقّع أمرًا تنفيذيًا الخميس بعد الساعة العاشرة ليلًا، تضمن تعليمات صادرة من مكتب إدارة شؤون الموظفين تُبلغ الوكالات الفيدرالية بأنها لم تعد ملزمة بالتفاوض مع النقابات، كما أمر المكتب بوقف المشاركة في آليات “إجراءات التظلم”، وهي الإجراءات الرسمية التي يستخدمها العمال لتقديم الشكاوى، وأبلغ الوكالات بأنها لم تعد مضطرة لاحترام القوانين التي تنص على الإشعارات المسبقة أو الإجراءات الرسمية عند تنفيذ عمليات تسريح الموظفين الفيدراليين.
وأخيرًا،، فبالنسبة لترامب وأنصاره، النقابات الفيدرالية ليست فقط كيانات تفاوضية، بل أدوات تُكرّس “الدولة العميقة” التي تُعرقل أجنداتهم السياسية.
ومع تزايد الحديث عن “الولاية الثانية بلا قيود” ومشروع 2025، تتضح معالم خطة تسعى إلى إعادة تشكيل الجهاز الإداري الأمريكي ليكون أكثر طاعةً وأقل مقاومة، حتى وإن كان الثمن هو تآكل التوازن التاريخي بين السلطة التنفيذية والطبقة البيروقراطية المحترفة التي ضمنت استمرارية الدولة عبر عقود الاضطراب.