آراءشويّة دردشةعاجل

ذكريات مع الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد| بقلم غضنفر عبد المجيد

عبدالرزاق عبدالواحد احد عمالقة الشعر العربي، وطني اصيل ينطلق من حبه وانتمائه لبلده ومن وفائه لما يؤمن به، اول مرة التقيه بداية التسعينيات في صالة فندق المنصور ميليا ببغداد وكان حينها يقام مهرجان بابل الدولي، كنت جالساً مع مجموعة من الشعراء والفنانين التونسيين من ضيوف المهرجان وكنا نتجاذب الأحاديث والقراءات الشعرية، وصادف اني اقرأ ابياتاً من احدى قصائدي القديمة وتعمدت ان اختار تلك الابيات من الشعر من السهل الممتنع لأني ادرك ان مدرستنا الشعرية العراقية فيها من المفردات والاسلوب ما قد لا يتذوقه غير العراقيين لأسباب تتعلق بالموروث الأدبي واللغوي والديني والتاريخي الذي كما يستحضر تاريخ سومر وبابل وآشور وأكد والحضارة العربية الاسلامية زمن بني العباس، يستحضر نهج البلاغة لعلي بن ابي طالب، والمُغني اللبيب لابن هشام وغيرها من امهات الكتب كما يستحضر جرير والفرزدق وابن الرومي والمتنبي والمعري وابونواس وابو تمام وابن زريق والشريف الرضيّ وغيرهم.. والقائمة تطول في مختلف الوان واغراض الشعر بين الحماسة والوصف والمدح والذم والهجاء والغزل والمجون والتصوف والزندقة والفلسفة والشعر التعليمي واشكال الموشح والدوبيت والرباعيات والخماسيات وغيرها بكل مافيها من المفردات والمعاني والصور واساليب اللغة والبيان مما هو غريب وماهو مألوف ومما لم تستطع ان تحيط به حتى مدارس اللغة في البصرة والكوفة.

اقول اني كنت بين هؤلاء الضيوف اقرأ بعضاً من قصيدة لبساطتها لا أعدها بين القصائد عسى ان تكون سهلة الفهم فتنال استحسان السامعين، وهي بعنوان ( قف ) اقول فيها :

قف إن لي بهواك َ وقفة ْ

ماكان حبُكَ محضَ صُدفة ْ

بل إنها نفْسٌ تتوقُ وفي الجوانحِ منه رجفةْ

او عَصْفةٌ تحتَ الضلوعِ ومثلها بالفكرِ عَصفةْ

لو كنتَ جُرفاً كنتُ نهراً هل يَعافُ النهرُ جُرْفَهْ ؟

وقبل ان اكمل سمعت صوتاً يقول ( عيد عيد ) يعني أعد أعد، فالتفت فأذا بالشاعر عبدالرزاق عبد الواحد خلفي لم الحظ وجوده في المكان، نهضت وسلمت عليه واعرب عن استحسانه لماسمع واعرب عن اعجابه بالبيت الأخير.. واستمرت العلاقة بيني وهذا العملاق الذي أحذر جداً عندما اقرأ امامه من شعري.. وتعددت اللقاءات والمواقف التي في كل مرة يثبت انه الانسان والشاعر الكبير والعراقي الوطني الشريف الذي لم ألمس فيه يوماً أن فترت وطنيته او اختل ايمانه بقضيته.. وآخر لقاء بيننا وانا في عمّان عام 2013 حين زرته في بيته بعد ان سمعت من احد الزملاء انه مريض، وبدأت اسأله عن صحته وكان يتحدث بجمل قصيرة وكلما يتوقف يتنهد ليس كعادته التي اعرفها عنه وهو الرجل الأريحي صاحب النكته المحب للحياة، لم يطل الحديث حتى بادرني: ( غضنفر إقرالي اريد اسمع منك أنا مدا اسمع بس نفسي ).. كان يبكي احياناً عند بعض الابيات ويتنهد احياناً تنهداً طويلاً اشبه بالأنين، وعندما انتهيت من قراءتي قال ( انا كتبت قصيدة اسمع ماذا قلت ) وكنت استمع له وانا اتمعن في تعابير وجهه وكأنه يعتصر الكلمات من قلبه وروحه اعتصار ألم وحزن عميقين ليس كشاعر يكتب في قضية وطن فقط بل في قضية كينونة ووجود ممزوجة بكبرياء الأحرار، وكلما جاء ذكر العراق او بغداد او دجلة او كلمة وطن او كلمة أهل كان يفقد رباطة جأشه وينفجر بالبكاء، مما دفع أخته التي كانت جالسة معنا ان تتوسل به: ( كافي عبدالرزاق كافي تبچي، بعد لاتقرا صحتك ماتتحمل ).. وكان ذلك اللقاء الأخير بيننا.. رحم الله عبدالرزاق عبد الواحد وغفر له وتقبله فيمن عنده في جنات الفردوس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى