تركيا : دلالات هزيمة حزب العدالة والتنمية في اسطنبول
قبل عدة سنوات قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن من يسيطر على مدينة اسطنبول يحكم تركيا، فإسطنبول هي درة تاج الدولة التركية ، وهي أكبر مدنها ، وحاضرتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والتاريخية ، كما أنها المدينة التي شهدت إنطلاق مسيرة أردوغان السياسية عندما فاز برئاسة بلديتها عام 1994.
ومن هنا يمكن تفهم لماذا لم يتقبل أردوغان فكرة خسارة رئاسة بلدية المدينة ووقوعها في يد مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض ، ولماذا أصر حتى النفس الأخير بكل الوسائل على إعادة الانتخابات على رئاسة المدينة والتي جرت في شهر مارس الماضي وفاز فيها مرشح المعارضة على مرشح أرودغان وحزبه بفارق 13 ألف صوت بزعم حدوث تزوير وانتهاكات في العملية الانتخابية.
وقد نجح الحزب بالفعل في استصدار قرار من اللجنة العليا للانتخابات بإعادة الانتخابات على رئاسة بلدية المدينة مجددا ، بعد مزاعم عن أن الأصوات قد سُرقت وأن العديد من مراقبي صناديق الاقتراع لم يحصلوا على تصاريح رسمية.
لكن رغم الإعادة فإن ما كان يخشاه أردوغان وحزبه من فقدان اسطنبول وسقوطها في يد المعارضة ، حدث بالفعل ، ليفوز مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض أكرم إمام أوغلو مجددا في انتخابات الإعادة وبفارق أكبر مما حققه في المرة الأولى على بن علي يلدرم رئيس الوزراء السابق ومرشح حزب العدالة والتنمية وهو أحد الشخصيات السياسية المقربة من أردوغان.
وتعود أهمية الفوز الذي حققته المعارضة في اسطنبول إلى ما تحتله المدينة من مكانة اقتصادية وسياسية وتاريخية ، فمن الناحية الاقتصادية تمثل اسطنبول قلب تركيا ومحركها الاقتصادي حيث تنتج 31.2 % من إجمالي الناتج القومي التركي الذي يعادل 851 مليار دولار حسب بيانات مركز الإحصاءات التركي لعام 2017 ويبلغ عدد سكانها أكثر من 16 مليون شخص ، كما تمثل قلب الصناعة في تركيا إذ تنتج 29 % من إجمالي الإنتاج الصناعي في البلاد ، وتبلغ موزانة بلدية المدينة نحو 10 مليارات دولار وفقا لميزانية عام 2018.
وخلال سيطرة حزب العدالة على المدينة..تم منح عقود مشاريع كبيرة لشركات ورجال أعمال مقربين من الحكومة وبالتالي جرى تشغيل عشرات الآلاف من أنصار الحزب في هذه الشركات بينما اتهمت صحف المعارضة الحزب بتلقي رشاوي مقابل منح هذه العقود.
كما تبرعت البلدية بمبلغ 150 مليون دولار لجمعيات ومؤسسات مقربة من حزب العدالة والتنمية ومن أسرة أردوغان حتى عام 2018 حسب كشوفاتها المالية.
في مقابل ذلك فإن فوز مرشح المعارضة برئاسة بلدية اسطنبول ، يشكل في رأي العديد من المراقبين السياسيين ضربة سياسية قوية لأرودغان وحزب العدالة والتنمية الذي خسر بهذه النتيجة ثلاث مدن كبرى لحساب حزب الشعب الجمهوري المعارض ، وهي اسطنبول وقبلها العاصمة أنقرة وأزمير فيما اعتبر آخرون أن ما جرى في انتخابات رئاسة بلدية اسطنبول كان بمثابة زلزال سياسي بالنسبة لحزب العدالة التنمية، إذ أنه وضع حدا لحكم الحزب للمدينة الذي استمر على مدى ربع قرن متصلة.
هزيمة حزب العدالة والتنمية في اسطنبول في رأي الكثيرين تتجاوز مسألة خسارة رئاسة بلدية المدينة إلى مستقبل ووحدة الحزب نفسه ، إذ لا يستبعد البعض أن تسهم هذه الهزيمة في مزيد من الانقسامات في صفوف الحزب لا سيما وأن الكثيرين داخله ومن بعض قياداته الكبيرة لم تكن راضية عن إصرار أردوغان على إعادة الانتخابات في اسطنبول ما يعني أن خسارة انتخابات الإعادة قد تسهم في تفاقم تلك الانقسامات لاسيما في حال قرر رئيس بلدية اسطنبول الجديد فتح ملفات المشروعات التي ينفذها رجال أعمال مقربون من الحزب وما قد يكون شاب ذلك شبهات فساد.
وكان عدد من الشخصيات السياسية ومن بينها الرئيس التركي السابق عبدالله غول وهو أحد القيادات التاريخية لحزب العدالة والتنمية قبل خروجه منه قد دعا الحزب إلى العدول عن إصراره على إعادة انتخابات رئاسة بلدية اسطنبول ، واعتبر أن التشكيك وإثارة الجدل حول هذه الانتخابات من شأنه الإضرار بتركيا داخليا وخارجيا.
ويرى المراقبون أن ذا الإنجاز الكبير الذي حققه حزب الشعب الجمهوري بانتزاع رئاسة بلدية اسطنبول رغم كل ما بذله حزب العدالة والتنمية والرئيس التركي منع ذلك ، يحمل في طياته العديد من الرسائل والدلالات السياسية المهمة ، أول هذه الدلالات تتمثل في نجاح مرشح الحزب في تجميع وحشد كل أطياف المعارضة التركية خلفه في معركة بدت أكبر من مجرد حسم رئاسة بلدية مدينة كبرى بقدر ما كانت مواجهة لمحاولات حزب العدالة والتنمية للهيمنة السياسية على البلاد بشكل كامل.
وقد استفاد مرشح حزب الشعب في ذلك من حالة الاستياء التي خلفها قرار اللجنة العليا للانتخابات باعادة انتخابات اسطنبول، إذ اعتبرت أوساط المعارضة أن هذا القرار كان نتاج الضغوط التي مارسها الحزب الحاكم على اللجنة التي يفترض أنها هيئة قضائية مستقلة.
هذا التطور السياسي المهم في نظر المراقبين ، قد يمهد لولادة تحالف سياسي واسع في تركيا بزعامة أكرم أوغلو الذي يتوقع أن يكون له مستقبل سياسي كبير ، هذا التحالف في حال قيامه يمكن أن يضع حدا لسيطرة حزب العدالة والتنمية على المشهد السياسي في التركي ، أو في الحد الأدني يحقق قدرا من التوازن في هذا المشهد الذي يبدو فيه الحزب الحاكم هو الحزب المهيمن وحده.
ولعل الشعار الذي خاض به أكرم إمام أوغلو الانتخابات وهو “العمل معًا لفتح طريق جديد للأمل والتخلص من هيمنة حزب العدالة والتنمية” قد كان معبرا بوضوح عن هذا الهدف.
أما الرسالة الثانية التي حملتها نتائج انتخابات اسطنبول فتتعلق بفشل حزب العدالة والتنمية اللافت في استمالة الأكراد للتصويت لمرشحه في انتخابات الإعادة أو على الأقل دفعهم لعدم التصويت لمرشح المعارضة.
وفي هذا الصدد كان لافتا جدا توقيت الرسالة التي بعث بها زعيم الحزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان من سجنه ، إلى أنصاره من أعضاء حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد والتي طالبهم فيها بالامتناع عن التصويت.
وقد اعتبر حزب الشعب المعارض وأنصاره أن هذه الرسالة كانت حيلة أخرى من حكومة حزب العدالة والتنمية ، لخشيتها من ذهاب الصوت الكردي إلى مرشح المعارضة.
وفي هذا الصدد يرى مراقبون أن حزب العدالة والتنمية ربما دفع ثمنا سياسيا لتحالفه مع حزب الحركة القومية المتشدد، والمعادي لحقوق الأكراد ، وهو التحالف الذي كان كفيلًا بخسارة الصوت الكردي في انتخابات بلدية اسطنبول لصالح إمام أغلو.