النيل في مصر .. شخصية ووجود| بقلم أ. د. مصطفى ابراهيم عوض

سجل المصري القديم في بردياته قدسية ومكانة النيل لديه بقوله .. أنا لم ألوث ماء النهر أنا لم أصد الماء وقت جريانه، ماذا يقول المصري اليوم للنيل وماذا فعل فيه؟ تلوث .. تدمير …
مصر هي هبة النيل هذا ما قاله هيرودوت (٤٥٠ ق.م )، فمنذ آلاف السنين تكاثر المصريون وزاد عددهم في الوادي والدلتا .
وتقول نعمات فؤاد في كتابها ( الأدب الشعبي) إن المصري القديم أمدته الشمس بالقناعة ومن النيل تعلم روح الطاعة والنظام والحساب وواقعية السلوك كما استلهم أهمية العمل، أما الفقراء فرغم ما فرض عليهم الأغنياء من أعمال شاقة فقد كانت الطيبة والرضا بواقعهم هي السمة السائدة بينهم ولم يحدث أن ثاروا على أغنيائهم، وقد انعكس ذلك كله كما تشير الدراسات التي أجريت على العقيدة الدينية فكان ( فرعون ) إلها لهم وفي الدولة الحديثة كان (اخناتون) يناجي ربه قائلا: ” سبحانك سبحانك أنت الذي خلق النيل في أعماق الأرض وأنت الذي قاده حول الأرض لإطعام الناس حيث تشاء .. إن النيل ينبت القمح والشعير ” .
لقد كان النيل إذن للمصري القديم مصدر توحيد وحياة فكانت الزراعة والصيد والصناعة أما بالنسبة للحياة الاجتماعية فقد نظموا حياتهم في صورة جماعات ليسهل عليهم التعامل مع النيل وهكذا طبع النيل الشخصية بالسماحة والجود والكرم، وعي خصائص مكنتهم من إقامة الحضارة، لقد كان عطاؤهم سمة رئيسية مع حبهم و انتمائهم للأرض في ظل حكومة مركزية للتحكم في توزيع المياه بالعدل على أرجاء مصر جعلهم كل ذلك أهلاً لبناء الحضارة .
ويقول العلماء إن النيل أسهم في إنشاء المدن الدولية التي تطل عليه أي موازنة لمجراه واستوطن البشر تلك المدن.. هذا من الناحية الجغرافية أما بالنسبة لعادات المصريين المرتبطة بأهمية النيل وعظم قدره ما يرددونه عند قسمهم فأبناء الوجه القبلي يقولون (وحياة البحر الطاهر )، يقصدون النيل، أما أبناء الوجه البحري فيقولون ( وحياة المية الطاهرة ) ويقول (رشدي صالح) فيما يتعلق بقصة (عروس النيل ) يعمدون إلى جارية بكر ويزينونها ثم يلقونها في النيل في الليلة الثانية عشر من شهر بؤونة ليفيض النيل ) .
هذه هي مكانة النيل في قلوب المصريين القدماء فقدسوا النيل وقدسوا ماءه وعظموا قدره، ورغم تباين آراء العلماء والمفكرين في قصة ( عروس النيل ) إلا أنها تظل تحمل في معناها أن النيل يفيض ينشر خيره في كل أنحاء مصر ما يدخل الرجل على عروسه، ومن هنا يتضح مكانة النيل وقدره .
وإذا انتقلنا إلى الجانب الوجداني للشعب المصري لنبحث عن تلك العلاقة الحميمة بين النيل والإنسان المصري نشاهد ما يلي:
أولا :- فيما يتعلق بالموارد تشير بعض الدراسات التي أجريت في هذا المجال وما كتبه المفكرون مثل ( أحمد أمين ) أن مولد (اسماعيل الامبابي ) يحتفل به في العاشر من بؤونة وهو اليوم الذي يعتقد قدماء المصريون أن (دمعة ايزيس) نزلت فيه في نهر أوزوريس النيل في ما يطلق عليه (ليلة النقطة ) عند النصارى والمسلمين ومن مظاهر ذلك الاحتفال أن عيد (إيزيس) من مظاهره أن يتم في الزوارق كذلك مولد الامبابي حيث السباحة في النهر( الفلوكة ) .
ثانيا :- بالنسبة للطب الشعبي والنيل فقد استعانوا به كرقية سحرية تشفي المرضى في حالات الولادة والميلاد والتفاؤل بحياة مديدة، ويشير على المكتوب إلى نفس المعنى بتأكيده على انتشار أضرحة الأولياء على شواطئ النيل في قنا وأسوان .
كما تزداد كثافة الطرق الصوفية في هذه الأماكن، ومن الأمثلة الأخرى عندما تشعر المرأة بآلام الوضع تذهب إلى الشاطئ بحثا عن قبضة من الطمس تبتلعها أثناء الولادة وعندما يحلق المولود يقومون بإلقاء الشعر في النيل ليعزز ويطول كما يعتقدون أيضا بالنسبة للمولود كانت النساء تجمعن له سبع حبوب من غلات النيل ويضعونها في كيس يعلق على ثوبه لمنع الحسد وجلبا للحظ ويمنا ببركة النيل من أجل حيلة خصبة كلها خير .
ومن المعتقدات المرتبطة بالنيل أيضا إلقاء الماء الذي تطهر به العذارى من الحيض في النهر جلبا للخصوبة وولادة الذكور، وفي النوبة تعبر الزوجات النهر أو الزوج وحده ويخطوا فوق نار مشتعلة على ضفتي النهر استرضاء للأرواح التي تسكن الماء أملا في الإنجاب .
ثالثا :هذه المعتقدات الشعبية ظلت على وجودها مع المسيحية رغم تغييرهم لهوية البعض منها فوضعوا عليها أسماء قبطية مع ربطهم إياها بالمناسبات الدينية القبطية فمثلا (الفيضان ) بالنسبة للمعتقد الشعبي الفرعوني مرتبط بروح إيزيس، أما القبطية فقد ربطته بدموع القديس ميخائيل حسب الرواية التي ترى أن القديس ميخائيل يصعد في ليلة النقطة إلى العرش للدعاء والبكاء طلبا للرحمة من الله والرجاء بارتفاع منسوب الماء وحين تسقط دموعه الطاهرة يفيض النهر .
وبالنسبة للإسلام فقد اتبع الفلاح المصري التقويمين القمري الإسلامي والتقويم الفرعوني الشمسي الزراعي .
وقبل أن أختم عرضي هذا أعرض كتابين أحدهما من عمرو بن العاص لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول فيه ( اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر تربة غبراء وشجرة خضراء.. يخط وسطها نهر مبارك يجري بالزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر له أوان، بدر حلا به ويكثر عجاجه وتعظم أمواجه فتفيض على الجانبين.. يحركون بطون الأرض ويبذرون بها الحب.. فإذا أشرف الزرع وأشرف مسقاه الندى وغذاء من تحته الثرى، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، فإذا هي عنبرة سوداء فإذا هي زمردة خضراء )، ويستكمل رشدي صالح بعرضه لكتاب عمر بن الخطاب بعد أن أشار إليه عمرو بن العاص في كتابه عن عملية هدم الإسلام لكل ما جاء قبله من فتن ومعتقدات فقال أمير المؤمنين في كتابه: قد أصبت إن الإسلام يهدم ما قبله وقد أرسلنا إليك ببطاقة ترميها في داخل النيل إذا أتاك كتابي ).
فلما قدم كتاب عمر بن الخطاب فتح عمرو بن العاص البطاقة فوجد فيها (من عبدالله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار الذي يجريك فنسأل الله الواحد أن يجر بك ) .
وألقى البطاقة في النيل قبل قدوم عيد الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للخروج فأصبحوا يوم عيد الصليب وقد أجراه الله (ستة عشر ) ذراعا في ليلة واحدة و تقول نعمات فؤاد في نهاية لتلك المقولة ( وقطع تلك العادة من أهل مصر ) .
وهكذا كانت مصر عبر تاريخها الطويل سواء في المعتقد الديني أو الموروث الثقافي تعبر دائما عن حبها للنيل وإجلالها له .
ا.د/ مصطفى ابراهيم عوض
أستاذ علم الإجتماع بجامعة عين شمس