يشكل “المنتدى الإفريقي الخامس للهجرة” الذي يبدأ اليوم “السبت” في “أرض الكنانة” علامة جديدة ومهمة في سياق إدارة ملفات الهجرة وهي قضية عالمية ملحة ومصدر جدل ثقافي وكتابات وكتب جديدة في دول شتى.
وإذ تحتضن مصر هذا المنتدى اليوم فإنها قدمت وتقدم نموذجا مضيئا للثقافة الإنسانية بشأن الهجرة غير المشروعة وحماية الكرامة الإنسانية في وقت يتصاعد فيه الجدل بين تيارات مختلفة ومثقفين حول العالم يتبنون رؤى متعددة حول العالم بشأن هذه الفئة من البشر.
وبالتنسيق مع الاتحاد الإفريقي تحتضن مصر اجتماعات المنتدى الإفريقي الخامس للهجرة الذي يبدأ اليوم باجتماعات على مستوى كبار المسئولين تستمر حتى غد “الأحد” ثم يعقد بعد غد “الاثنين” اجتماع وزاري هو الأول من نوعه في هذا المنتدى فيما تشارك فيه هذا العام أكثر من 40 دولة أفريقية.
وإلى جانب الوزراء المعنيين فإن ممثلين لمؤسسات أكاديمية ومراكز أبحاث أفريقية ودولية يشاركون في المنتدى الذي يعقد تحت العنوان الدال:”تعزيز البيانات والبحوث حول الهجرة لوضع سياسات قائمة على الأدلة وتنفيذها نحو إدارة فعالة للهجرة في إفريقيا”، ويركز المنتدى الذي يعقد هذا العام في سياق رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي على قضايا مهمة تتمثل في بيانات واحصاءات الهجرة.
ووفقا “للعهد الدولي للهجرة” الذي أقرته الدول الأعضاء بالأمم المتحدة في نهاية العام الماضي بمراكش فإن تعزيز قاعدة بيانات وإحصاءات الهجرة على مختلف الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية يشكل أساسا لوضع سياسات ناجعة في إدارة قضايا الهجرة.
وفيما يهدف المنتدى لتعزيز آليات التشاور بين دول القارة الإفريقية لضمان تحسين واستدامة إدارة الهجرة بربوع القارة التي تعد ثاني أكبر قارات العالم من حيث المساحة التي تتجاوز الـ30 مليون كيلو متر مربع وعدد السكان الذي يتجاوز المايار و200 مليون نسمة حيث تأتي على هذا المضمار بعد قارة آسيا مباشرة فان مصر التي تحتضن المنتدى تقدم مثلا مضيئا للعالم ككل في سياسات الهجرة سواء على مستوى الخطاب أو الأفعال.
ومصر التي تعد من الأعضاء البارزين في منظمة الهجرة الدولية تدشن لثقافة جديدة تتعامل مع جذور الهجرة غير الشرعية أو تلك الظاهرة المأساوية والتي تحولت “لظاهرة عالمية” تؤرق الضمير الإنساني مع الألم الذي يحفز القلم للكتابة عن “توابيت الموت” السابحة في بحار ومحيطات العالم.
وهذا التوجه المصري النبيل بشأن التعامل مع إشكاليات الهجرة غير الشرعية وأهمية البحث عن مخرج لأزمة المهاجرين ونزوح اللاجئين بالملايين عبر الحدود حاضر وفاعل على كل المستويات فيما كان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد أكد من قبل على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة أنه “لا سبيل لوقف الهجرة غير الشرعية الا بمعالجة جذورها الرئيسية وفتح المزيد من قنوات الهجرة الشرعية”.
ونوه الرئيس السيسي بأن مصر تحملت اعباء استضافة أعداد ضخمة من اللاجئين والمهاجرين من مختلف الجنسيات بلغ عددهم مايقرب من خمسة ملايين لاجئ ما بين مسجلين وغير مسجلين وتعمل على توفير سبل المعيشة الكريمة لهم دون عزلهم في معسكرات أو ملاجئ إيواء.
وهذا التوجه يعبر بأصالة عن حقيقة مصر التي لا تقبل بحضارتها العريقة ورسالتها الإنسانية أن يتحول البشر إلى أطياف حزن شاردة بانكسار في بحار ومحيطات العالم لينتهي المطاف ببعضهم إلى الهلاك أو التعرض لمعاملة غير إنسانية.
والمنتدى الإفريقي الخامس للهجرة الذي يبدأ اليوم في أرض الكنانة يأتي في سياق الاهتمام الكبير بمعالجة ظواهر متعددة للهجرة ومن بينها الهجرة غير المشروعة فيما كان رئيس بعثة “المنظمة الدولية للهجرة” بمصر لوران دي بويك قد امتدح الأطر القانونية المصرية المتصلة باستقبال المهاجرين.
ونوه لوران دي بويك في مقابلة تليفزيونية مؤخرا بسجايا المصريين الذين يتعاملون بأرقى المعايير الإنسانية مع المهاجرين.. مشيدا بكرم ضيافتهم في بلدهم الذي يعيش به اشخاص “من اكثر من 165 جنسية فيما يعيش الجميع في حالة من الاندماج والقبول”.
وترى السفيرة نائلة جبر رئيس اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة الاتجار بالبشر ومنع تهريب المهاجرين” أن الهجرة غير الشرعية لها “أسباب عديدة اقتصادية واجتماعية وثقافية” مشددة على أهمية الحل القائم على التوعية والتنمية لهؤلاء البشر فيما لفتت إلى أن وجود أطفال بمراكب الهجرة غير الشرعية “ظاهرة خطيرة”.
وبين “حديث الأمس وتحديات اليوم”، فإن الإنتاج الثقافي المصري-العربي مدعو لمواكبة جديد المتغيرات في ظاهرة مهاجري قوارب الموت لتحقيق المزيد من التراكم المعرفي-الإبداعي حول هذه الظاهرة التي عانت منها منطقتنا وعالمنا العربي.
واللافت حقا أن بعض الذين اندرجوا تحت لافتة “المهاجرين غير الشرعيين” حققوا إنجازات إبداعية وأدبية أثارت اهتمام الصحافة ووسائل الإعلام حول العالم مثلما حدث مؤخرا عندما فاز “لاجئ محتجز في أستراليا برابع جائزة أدبية استرالية عن سيرته الذاتية”.
فقد توج بهروز بوجاني وهو لاجئ كردي إيراني محتجز منذ أكثر من ستة أعوام في مركز مركز للمهاجرين غير الشرعيين بجزيرة “مادوس” الاسترالية بالجائزة الوطنية الاسترالية للسيرة الذاتية لتكون رابع جائزة ينالها عن سيرته الذاتية التي أصدرها في كتاب بعنوان “لا رفيق سوى الجبال”.
وفي هذا الكتاب المتوج بأربع جوائز حتى الآن يتناول بوجاني رحلة خروجه من بلاده حتى احتجازه بعد وصوله لجزيرة “كريسماس” الاسترالية قادما في قارب كمهاجر غير شرعي عبر إندونيسيا فيما يسرد تفاصيل اليمة في محنة احتجازه طوال تلك السنوات.
وظاهرة المهاجرين غير الشرعيين موضع اهتمام ثقافي في الغرب وتتوالى الإصدارات والكتب الجديدة التي تتناول هذه الظاهرة المآساوية من جوانب متعددة فيما تدعو التطورات المتصلة بمخاطر الإرهاب لدراسات ثقافية متعمقة حول تأثيرها سواء على المهاجرين الشرعيين أو غير الشرعيين فيما تتأثر القارة الإفريقية وعالمنا العربي بتلك القضية المتعددة الأبعاد والجوانب والتداعيات.
وفي فعاليات “المنتدى الإفريقي الأول لمكافحة الفساد” وهو المنتدى الذي عقد في شهر يونيو الماضي بمدينة شرم الشيخ بمشاركة ممثلي أكثر من 50 دولة إفريقية طرحت مداخلات لافتة ودارت مناقشات مهمة حول أبعاد لظاهرة الهجرة غير المشروعة ومن بينها “الاتجار في البشر” وكان من بين أصحاب تلك المداخلات السفيرة نائلة جبر رئيس “اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر”.
وإشكالية الاتجار بالبشر كصورة من صور الجريمة المنظمة وبعد من أبعاد ظاهرة الهجرة غير المشروعة تتجلى في كتاب جديد صدر عن “دار فيار” الفرنسية للنشر بعنوان :”مستعبد من الميليشيات.. رحلة في قلب الجحيم الليبي” يتحدث الصحفي الغيني الشاب الفا كابا عن محنة عاشها بين عامي 2013 و2016 وهي تجربة شخصية حيث كان هذا الشاب البالغ من العمر 25 عاما أحد الأفارقة الذين حاولوا الهجرة غير الشرعية لفرنسا عبر ليبيا.
وفي أتون تلك المحنة تنقل الفا كابا بين خمس دول أفريقية حتى بلغ الأراضي الليبية على أمل الهجرة ولو بصورة غير مشروعة لفرنسا وإذا بهذا الحلم ينقلب لكابوس بعد أن وقع في قبضة عناصر إحدى الميليشيات التي تعيث فسادا في أرض ليبيا الشقيقة وتتضمن ممارساتها الآثمة الاتجار بالبشر.
وإذا كانت الأقدار قد كتبت له الخلاص في نهاية المطاف من قبضة العبودية ونير الميليشيات فواقع الحال إن هذا الكتاب للصحفي الغيني الشاب الفا كابا “صرخة تحذير لكل الشباب الذين قد تستهويهم فكرة الهجرة غير المشروعة للغرب فإذا بهم يلقون أهوالا مثل تلك التي عانى منها كابا لثلاثة أعوام تحول فيها لعبد لعناصر الميليشيات التي لا تعرف الرحمة” فيما يشير كشاهد عيان إلى أن هناك نحو 700 ألف من الأشخاص الذين دخلوا الأراضي الليبية على أمل الهجرة غير المشروعة لأوروبا.
وأزمة المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين الفارين من ويلات النزاعات المسلحة تؤكد صحة وصواب الموقف المصري الذي ينادي بضرورة العمل من أجل تسوية تلك النزاعات والتصدي لظاهرة الإرهاب التي تشكل أحد أهم أسباب تفاقم الأزمة وفتح قنوات الهجرة الشرعية وتيسير عملية التنقل وربط الهجرة بالتنمية.
وإذا كان بعض الأمريكيين من عشاق القرأءة قد تأثروا بكتب في أدب المهاجرين ومن بينهم أفارقة مثل كليمانتاين وأماريا صاحبة كتاب:” الفتاة ذات البسمة البراقة” التي تسرد تجربتها الأليمة في خضم الصراع الدموي العرقي بين الهوتو والتوتسي في رواندا لتفر عام 1994 للولايات المتحدة وتنجح في استكمال دراستها الجامعية هناك فإن قضايا الهجرة والمهاجرين تحتدم الآن في المجتمع الأمريكي.
وفي شهر أغسطس الماضي كشفت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن اشتراطات جديدة في قوانين الهجرة اعتبر معلقون أن من شأنها أن تجعل حتى المهاجرين الشرعيين الأكثر فقرا غير مؤهلين لتمديد إقامتهم أو الحصول على حق الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة.
وفيما تفيد تقديرات معلنة بأن عدد المهاجرين الشرعيين المقيمين في الولايات المتحدة دون أن يكونوا حاصلين على الجنسية الأمريكية بنحو 22 مليون شخص رأت منظمات معنية بحقوق المهاجرين أن تلك الاشتراطات الجديدة تستهدف بصورة غير عادلة المهاجرين من أصحاب الدخول المنخفضة والمتدنية الذين يعتمدون إلى حد كبير في معيشتهم على المساعدات التي تقدمها الدولة.
ومن نافلة القول إن ملف الهجرة وخاصة الهجرة غير الشرعية من أهم الملفات في الانتخابات العامة التي تشهدها الدول الأوروبية في السنوات الأخيرة وهذا الملف كاشف لمدى الاختلافات الثقافية والتوجهات السياسية بين التيارات المختلفة في الغرب.
وثمة حالات دالة في هذا السياق مثل قيام فنانة في مدينة ليفربول البريطانية بعرض قائمة بأسماء 34 ألفا و361 شخصا قضوا نحبهم أثناء محاولات الوصول لأوروبا منذ عام 1993، غير أن هذه القائمة التي أعدتها “بانو سينتوجلو” على لافتة طولها 280 مترا كمشروع فني ضمن مبادرة لمثقفين أوروبيين مناوئين للتطرف والتعصب مزقت أكثر من مرة من قبل أشخاص ينتمون لليمين المتطرف.
وكانت المكتبة البريطانية استقبلت كتابا لديفيد ميلر بعنوان :”غرباء بيننا: الفلسفة السياسية للهجرة” ليثير المزيد من الجدل حول قضايا الهجرة واللاجئين في الغرب وهي قضايا باتت ضمن أولويات المرشحين في الانتخابات الرئاسية والتشريعية بعد أن فرضت نفسها على الاهتمام العام للناخبين.
وبدا ديفيد ميلر بدا في كتابه اقرب للرؤية المتشددة مع اللاجئين كما بدا مؤيدا “لمعايير اكثر صرامة لانتقاء المهاجرين الجدد” وأعادت تحذيراته بشأن “التأثير السلبي لتدفق المهاجرين على المناعة الاجتماعية” للأذهان ذلك الكتاب الذي صدر بعنوان “موت الغرب” واعتبر فيه السياسي اليميني الأمريكي باتريك بوكانان أن قيم المجتمعات الغربية مهددة بسبب ما وصفه “بغزوات المهاجرين من العالم الثالث” داعيا للحد من سيل الهجرات والتصدي للقيم الثقافية الوافدة.
وفي المقابل رأت الممثلة الأمريكية اللامعة أنجلينا جولي أنه ليس من دواعي الفخر الإساءة لأي شخص على أساس الدين أو الجنسية أو أي اختلاف آخر داعية “لمزيد من التسامح” كما لا يمكن تجاهل ذلك الكتاب الذي صدر في استراليا بعنوان “بلاد بعيدة للغاية: كتابات حول طالبي اللجوء ” تحرير روزي سكوت وتوم كينالي.
وهذا الكتاب مختارات من قصص قصيرة وقصائد ومقالات وطروحات بل ويضم أيضا ملخصات لكتب أخرى ليكون بمثابة “بيان جماعي” لكوكبة من المبدعين في استراليا حول قضية باتت تهمهم.
وإذا كان العالم بحاجة “لثورة إنسانية” تؤدي لتغييرات جذرية في نظرة الإنسان لأخيه الإنسان، فإن مصر التي تحتضن اليوم “المنتدى الإفريقي الخامس للهجرة” تقدم نموذجا مضيئا للثقافة الإنسانية بشأن إشكالية الهجرة غير الشرعية وتؤكد بالأقوال والأفعال أهمية معالجة جذور المأساة و”التعامل مع هؤلاء البشر كبشر في المقام الأول”.