آراءشويّة دردشة

القوة الناعمة | بقلم م. حسنات قاروصه

تسعى الدول الكبرى إلى غزو العالم والسيطرة على الشعوب من خلال عدد من الخيارات التي تمثل الأخطر والأسهل والأكثر تأثيرًا لتحقيق مصالحها من خلال ما يعرف باسم “ القوة الناعمة” التي تمثل القوة الروحية والمعنوية للدولة، تمتد هذه القوة إلى خارج حدود الدولة وبالحديث على القوة الناعمة المصرية نجدها ثلاثية الأبعاد ترتكز على (اللغة، والتاريخ، والثقافة)، كما تمتلك الموقع الجغرافي في قلب العالم، فضلًا عن المؤسسات الدينية البارزة كالأزهر والكنيسة الأرثوذكسية بما يمنحها مكانة دينية وروحية عالية.

تعد القوة الناعمة هي السلاح الأقوى لمواجهة كافة أشكال التطرف والعنف والإرهاب، ولاستعادة الدور فهى حجر الزاوية في تشكيل الوعي والتفكير الجمعي للشعوب.

ظهر الاهتمام بمفهوم القوة الناعمة منذ ثلاث عقود على يد الأمريكي “ جوزيف ناي” الذي يعرفها على انها “ استخدام وتوظيف قوة الثقافة والقيم الأخلاقية والسياسية لتغيير الأوضاع السائدة في مجتمع ما”، رغم إن ما يعبر عنه كان موجودًا بالفعل قبل هذه الفترة وبعدها ما تجسد في قدرة الدولة المصرية على استحدام أدوات الاقناع والاستمالة بدلًا من الضغط والإكراه في إدارة علاقاتها الدولية، في محيطها الإقليمي بل والدولي عبر أدوات الدبلوماسية الشعبية وتوظيف الأبعاد الثقافية والتعليمية والإبداعية علاوة على توظيف القوة الاقتصادية في إدارة العلاقات الخارجية عبر توظيف المعونات الاقتصادية والمساعدات علاوة على تقديم المنح الدراسية.

عناصر القوة الناعمة المصرية:

التاريخ؛ تمتلك مصر إرثًا تاريخيًا وحضاريًا عظيمًا مثل رأس مالها المعنوي الذي جعلها من أهم الفاعلين في النظام الدولي على مر العصور، يعد هذا التاريخ هو الامتداد الفعال في العلاقات الخارجية وعمق الدور في الدوائر الإقليمية المختلفة العربية والأفريقية والإسلامية بل والدولية، وتجلى هذا الدور التاريخي في مساندة القضية الفلسطينية وتقديم الدعم والمساندة للشعب الفلسطيني في كفاحه ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتصاعد الموقف المصري إلى درجة المشاركة في حرب 48، كما برز هذا الدور بشكل حاسمً في تأسيس جامعة الدول العربية 1945، وحركة عدم الانحياز، علاوة على اقتراح وإقرار معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي العربي، والتصديق الفوري عليها عام 1950.

الثقافة؛ تعد الدولة المصرية من أولى الدول التي انفتحت على الثقافات الغربية، كما تعد الدولة الرائدة في مجالات صناعة الأفلام، والتليفزيون، والإعلام، والموسيقى، بدأت صناعة السينما في مصر في ثلاثينيات القرن العشرين، وبدورها أنتجت ثلاثة أرباع الأفلام العربية القصيرة والطويلة، وعلى الجانب الأخر؛ استضافت مصر العديد من المهرجانات العالمية بالإضافة إلى الشهرة التي اكتسبتها الدراما المصرية، وعروض الأوبرا، والموسيق،. كما يعتبر الروائي “ نجيب محفوظ” هو الكاتب العربي الوحيد الحاصل على جائزة “نوبل” في الأدب.

اللغة؛ لعبت اللهجة المصرية بصفة خاصة واللغة العربية بصفة عامة دورًا كبيرًا في تقريب الشعوب في المنطقة العربية من خلال الصحف والمجلات والأفلام السينمائية التي كانت تهدف إلى توحيد الشعوب العربية ضد القوى الاستعمارية.

وفي إطار مساهمة الدولة المصرية في التحول في استخدام القوة الصلبة إلى القوة الناعمة؛ لعبت الدولة المصرية دورًا حاسمًا في الحفاظ على السلم والأمن الدولي، فقد ساهمت في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة منذ 1960 في الكونغو ومنذ ذلك الحين ساهمت مصر في 37 بعثة للأمم المتحدة، مع أكثر من 30.000 من قوات حفظ السلام المنتشرة في 24 دولة في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، كما توفر أكثر من 2000 فرد من رجال الجيش والشرطة يخدمون تحت راية الأمم المتحدة في بعثات السلام، فيما تتخذ مصر موقفًا جادًا من التأكيد على المشاركة في عمليات حفظ السلام مع رفضها لاستخدام القوة غير المبررة في عمليات حفظ السلام لأنها تؤدي إلى طمس الهدف الحقيقي منها وتهدد شفافية العنصر العسكري للبعثة.

مرت القوة الناعمة المصرية بالعديد من مراحل الصعود والهبوط نتيجة ارتباطها بتوجهات النظام السياسي فضلًا عن إدراك القيادة السياسية أهمية هذا الدور، و سنحاول إبراز أهم ملامح القوة الناعمة المصرية في العهود السابقة منذ الرئيس جمال عبدالناصر وصولاً إلى الرئيس “ عبد الفتاح السيسي” على النحو التالي:

1- عهد الرئيس “ جمال عبدالناصر”:
هيمنة القوة الناعمة المصرية على المستوى الإقليمي منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952 وامتدت بعدها بعقود، فقد مثلت الثقافة والأفكار والقيم المصرية الخارجية مصدرًا للإلهام والجذب لجميع دول المنطقة العربية، كما ساهم العديد من المفكرين والمثقفين والفنانين والأدباء علاوة على رجال الدين في تشكيل الوعي الجمعي للشعوب العربية، ولعبت الثورة دورًا بارزًا في تدعيم القوة الناعمة من خلال إنشاء “الهيئة العامة لقصور الثقافة” بقصورها ومراكزها المتعددة في أنحاء الدولة، كما تم إنشاء “أكاديمية الفنون” التى تضم المعاهد العليا للسينما والمسرح والأوبرا والبالية والفنون الشعبية.

ظهر الاهتمام الناصري بالقوة الناعمة من خلال دعم الفنون المصرية وحرصه على حضور العروض السينمائية متيقن أن للفن دورًا هام في مواجهة الأحداث السياسية وما تحمله في طياتها من مؤمرات خارجية تكاد تعصف بالأنظمة السياسية في كثير من الأحيان، فلم يغفل عن تكريم العديد من الفنانين كما كان له دورًا في إعادة أغاني أم كلثوم عبر الأذاعة بعد وقفها، كما طالب من الفنان “فريد شوقي” عمل فيلم عن كفاح أهل بورسعيد في التصدي لقوات الاحتلال الذي عرف بعد ذلك باسم “بورسعيد”.

والجدير بالذكر؛ أن السينما المصرية أسهمت فى عهد عبد الناصر بإنتاج 936 فيلمًا، بمتوسط إنتاج سنوي 52 فيلمًا، اهتمت في موضوعاتها بانتقاد الحياة الاحتماعية والاقتصادية والسياسية قبل الثورة، وأشهرها “رد قلبي”، و”صراع في الوادي” و”الأيدي الناعمة”، كما أنتجت السينما العديد من أفلام الأدب المصري الأصيل بعد أن كانت تعتمد على الاقتباس من القصص والأفلام الأجنبية.

ارتبط تأثير القوة الناعمة ومدى انتشارها في محيطها الإقليمي بقوة النظام السياسي المصري ووعي القيادة السياسية بأهمية الثقافة كظهير داعم لاستراتيجيتها الوطنية فقد شهدت فترة الخمسينات والسيتنيات تصدير لحركة الثقافة ونشرها خارج حدودها تجلى ذلك في الإذاعة المصرية التي تبث كافة برامجها حول المنطقة باللغات العربية، والفرنسية، والإنجليزية، والإيطالية، والعبرية.

كما تمتلك مصر العديد من المنشأت الثقافية أمثال دار الأوبرا المصرية، ومكتبة الأسكندرية التي أعيد افتتاحها عام 2002، والجامعة الأمريكية في القاهرة، وجامعة القاهرة التي تعد من أفضل الجامعات في العالم، والمجلات والصحف المصرية والسينما والموسيقى.

تميزت السياسة الخارجية المصرية في عهده بإنها كانت تنظر إلى نفسها باعتبارها قائدة في المنطقة، حيث تبنت مصر مفهوم “القومية العربية” فضلًا عن “الوحدة العربية” وطبقتها مع الدولة السورية، كما شهدت تعاونًا كبيرًا تجاه الدائرة الأفريقية مساندًة لحركات التحرر الوطني في نيل الاستقلال والتحرر من قوى الاستعمارية التي مثلت أحد أهم دوائر التحرك المصري كما سعى إلى توصيل نطاق هذا التوجه عبر عدد من الأدوات تجلت في الوزارات المصرية، كما لعبت هذا الدور أيضًا “شركة المقاولون العرب” التى كانت رابطا قويا لحركة اقتصاديه واجتماعية لمصر فضلًا عن تقديم عدد من المنح الدراسية للأفارقة، وعلى المستوى الدولى تبنت سياسة “عدم الانحياز” نتيجة التجاذبات التي شهدها النظام الدولي بين القوة الدولية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

2- عهد الرئيس “ محمد أنور السادات”:
اهتم الرئيس الراحل “أنور السادات” بالقوة الناعمة المصرية فبرغم من أنها لم تلق نفس مستوى الاهتمام الذي حظيت به في العهد الناصري إلا أن القيادة السياسة استمرت في لعب دورًا بارزًا في دعم الفنون والسينما عبر تخصيص يومًا للاحتفال بعيد “الفن” تكريمًا للفنانين، كما ركز “السادات” على توظيف هذه القوة في سياساته الخارجية خاصةً أثناء تحضيره لزيارة إسرائيل حيث رغب في معرفة رد فعلهم لهذه الزيارة لذا فقد طالب الفنان “عمر الشريف” بالتحدث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي “مناحم بيجن” ليخبره برغبته في زيارة إسرائيل والاستفسار عن رد فعلهم على هذه الزيارة بالفعل تحدث الشريف لـ “بيجن” وأعلمه بزيارة السادات لكنه يود أن يعرف كيف ستستقبله، وأجابه “بيجن” “سنستقبله كمسيح”.

فبرغم من هذا الاهتمام إلا إنها تراجعت في تأثيرها في محيطها الإقليمي في هذه الفترة نتيجة ارتباطها بتوجهات النظام السياسي الذي وضع الدائرة الدولية في مرمى أهدافه حيث الانفتاح على الغرب علاوة على إبرام معاهدة السلام مع إسرائيل متغافلاً عن باقي الدوائر الأمر الذي ترتب عليه بداية التأكل في مقدرات التاثير الخارجي للدولة المصرية.

لذا فقد شهدت نهاية السبعينات تحولاً في ارتباطات مصر الخارجية عن الشكل الذي اتخذته منذ الخمسينات و الستينيات فقد تقدمت مصالحها واهتماماتها الوطنية على التزاماتها العربية، واستبدلت علاقتها مع الاتحاد السوفيتي بعلاقة استراتيجية مع الغرب والولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن مصر استعادت علاقاتها مع العالم العربي في أوائل الثمانينيات إلى أن النموذج المصري القائم على ركيزة “القومية العربية” قد شهد خفوتًا حادًا في مقابل ترسيخ مفهوم “الدولة القطرية”.

3- عهد الرئيس “ محمد حسني مبارك”:
مع مجئ عهد الرئيس “حسني مبارك” شهدت هذه الفترة الاهتمام بالفن والموسيقى والإبداع بشكل كبير من خلال حرصه المستمر على تشجيع إنتاج الأوبريتات الوطنية، والأفلام التي جسدت فترة حرب 73 والاحتلال الإنجليزي لمصر كما حرص على اصطحاب الفنانين معه في الحفلات الرسمية إلا أنه أغلى عيد الفنانين واستبدله بعيد الإعلاميين إلا أنه اهتم بهم بشكل كبير فقد أمر بسفر العديد منهم للعلاج على نفقة الدولة، كما امتد اهتمامه لتشيجع المنتخب الوطني لكرة القدم.

وعلى مستوى السياسة الخارجية، تراجع التأثير الإقليمي لمصر في الدائرة الإقليمية نتيجة التحولات الجذرية التي شهدها النظام الدولي بانتهاء الحرب الباردة وبروز الولايات المتحدة كقوة عظمى في العالم، وبروز بعض القوى الإقليمية التي تحاول لعب دور القيادة في المنطقة، فضلاً عن عدم الاهتمام بالدائرة الأفريقية نتيجة محاولة اغتياله الأمر الذي ترتب عليه رد فعل قوى بابتعاد مصر عن أفريقيا، بل أن مصر سقطت من حسابات الدول الأفريقية تماما بعدها .

كان الهدف الرئيسي لـ”مبارك” في ذلك التوقيت هو استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي بالإضافة إلى عودة التوازن في العلاقات العربية مع استمرار التزام مصر باتفاقية السلام مع إسرائيل، تجلى هذا التوازن مع الغزو الإسرائيلي للبنان فقد أدانت مصر الغزو وقررت سحب سفيرها من تل أبيب واشترطت لعودته انسحاب إسرائيل من لبنان.

4- عهد الرئيس “عبدالفتاح السيسي”:
بدأت القيادة المصرية بالاهتمام بمكامن القوة الناعمة الحاضرة في ثقافتها كركيزة داعمة في سياستها الداخلية والخارجية، فقد حاول “ السيسي” اتباع سياسة مغايرة عن سابقيه تحاول استعادة مكانة الدولة المصرية على المستوى الداخلي والإقليمي من خلال الاهتمام بحركة الفن والإعلاميين والأدباء، تجسد في اللقاءات المستمرة للاستماع إلي مطالبهم، كما اصطحب عددًا منهم في زياراته الخارجية لتعزيز العلاقات الثنائية على مستوى الدبلوماسية الشعبية.

وفي إطار عودة الدور المصري للقارة السمراء بدأت القيادة السياسة بتوجيه الاهتمام إليها من خلال عقد عدد من الدورات التي شملت عدد من المجالات مثل المياه والريّ، والطب البيطري، والطب، -فعلى سبيل المثال- نظمت مصر دورة تدريبية في مجال الطب، تحت عنوان “إدارة الجودة الشاملة للرعاية الصحية” في كلية الطب في جامعة الفيوم، خلال الفترة من 8 حتى 26 فبراير، وشارك فيها 19 متدربًا من دول الصومال، ومالاوي، وغانا، وتنزانيا، والكونغو الديمقراطية، وأوغندا، والسودان، وزيمبابوي.

فيما نظمت مصر زيارة لوفد ضم رؤساء تحرير وإعلاميين ومسؤولين صحافيين من دول حوض النيل ودول تجمع “السادك” بلغ عددهم 28، وشملت تلك الزيارة مقابلة الرئيس “السيسي”، بالإضافة إلى عقد لقاءات رفعية المستوى مع عدد من المسئولين علاوة على زيارات أخرى إلى عدد من الأماكن جاءت على رأسها أكاديمية ناصر العسكرية العليا، وأكاديمية الشرطة، والهيئة العامة للاستعلامات، ومقر اتحاد الصناعات في مدينة العاشر من رمضان، وصحيفة الأهرام وهيئة توثيق التراث الحضاري، بالإضافة إلى عدد من الأماكن السياحية.

كما بدأت الخارجية المصرية باعتماد الدبلوماسية الشعبية التي تجسدت في اختيار سفير مصر بالمغرب للاحتفال بستين عامًا على إنشاء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين باقامة حفل موسيقي لـ “ عمر خيرت” على مسرح محمد الخامس.

كما انتبهت الدولة إلى ما تتعرض له من مخاطر تأتي على رأسها المحاولات المضنية لإثارة الفتن بين المسلمين والمسيحيين من خلال استهداف الكنائس لذا فقد حرص الرئيس على توجيه الدعوة إلى بابا الفاتيكان لزيارة مصر، ما استجاب له البابا فرنسيس فى شهر إبريل 2017، حيث قال بابا الفاتيكان فى الكلمة التى ألقاها إن “مصر تبنى السلام بيد، وتحارب الإرهاب بيد أخرى”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى