شويّة دردشة

القناة .. قصة من مصر | بقلم وسام سمير

وسام-سمير

القناة .. قصة من مصر

“قناة مصر، كانت هي الحلم الكامن في اعماق ام الدنيا منذ الآلاف السنين، والحقيقة الجغرافية الفاصلة في توازنات التاريخ، انها عجيبة الزمان التي تقص وتروي قصة كفاح اعرق شعوب الارض واعظمها، فمع بزوغ فجر التاريخ في العام ١٨٧٤ ق.م تحقق الحلم الاول لسنوسرت الثالث الذي شق بالفعل اول قناة تربط قارتي العالم القديم عبر النيل، فوضع حجر الأساس لأول قناة صناعية في تاريخ الانسان، ومع تراكم الأيام تسلطت الرياح وكمن الحلم تحت التراب، ولكنه استيقظ من جديد بعد خمسة قرون وتحديدا في العام ١٣١٠ ق.م بأمر من الفرعون سيتي الاول خليفة رمسيس الكبير، فأعاد الحياة للشريان المائي وتصافح البحرين عبر النهر، ومع مطلع العام ٦١٠ ق.م كان الشريان قد أهمل فخرج الي مسرح التاريخ ابرز ملوك الاسرة السادسة والعشرين الملك نخاو الذي ازال اثار السنين وأعاد المياة الي القناة، دافعا بمصر الي الامام …. ”

“ولضمان هيمنة السيادة الفارسية علي مصر و العالم، شرع داريوس الكبير عام ٥١٠ ق.م في اعادة حفر القناة وربط البحيرات المرة بالبحر الأحمر ..”

” وما ان تسيّدت قواته علي العالم حتي دخل الي مصر وصار ابنا لآمون، انه الإسكندر الأكبر الذي أراد نقل قواته المتدفقة من المتوسط الي شواطيء البحر الأحمر كـتثبيتا لإمبراطوريته الممتدة الي الهند، فأشرف بنفسه علي التخطيطات الهندسية للقناة القديمة، الا ان بموته المفاجيء ارتبكت الأمور وتوقف العمل.

الي ان جلس علي عرش مصر الابن الأكبر لابرع قواد الإسكندر بطليموس ڤيلادلڤيوس فاستكمل المشروع وأعاد للحلم الحياة … ”

وحين تربع الإمبراطور تراجان علي عرش الامبراطورية الرومانية أعاد الملاحة للقناة وشق فرعا جديدا ربطه هو الاخر بالبحيرات المرة فانتعشت الملاحة وتجذرت السيادة الرومانية علي العالم يوم ان كانت مصر هي سلة غذاءها” .

وبعد سنوات من الاهمال البيزنطي، دخلت القوات العربية الي ارض النيل واراد عمرو بن العاص توطيد الاتصال مع كرسي الخلافة في الجزيرة العربية فأعاد حفر قناة أمير المؤمنين من الفسطاط الي السويس، فستمرت لأكثر من مائة عام، حتي أمر الخليفة ابو جعفر المنصور بردمها كخطوة حاسمة في رحلة الصراع مع أهالي مكة والمدينة الثائرين علي الحكم العباسي فتوقف التواصل بين القارتي العجوز، وكُتبت كلمات النهاية للقناة القديمة التي مكثت بعدها في الظلام لألف عام”

وقبل ان يسدل الستار علي القرن الخامس عشر كان قد كلّف من قبل ملك البرتغال مانويل الاول بمتابعة استكشاف الطرق البحرية حول افريقيا، فأبحر فاسكو دجاما ليفتح طريق راس الرجاء الصالح ضاربا طريق القوافل البرية في مصر وطريق الحرير في اسيا.

” فشعرت البندقية بخطورة الموقف وانطلق وفدا رفيعا الي السلطان الغوري ليحثه علي ضرورة اعادة حفر القناة اذ قد بات أمرا فاصلة في توازنات التاريخ، ولكن القدر كان قد قال كلماته الاخيرة في مصير … مصر المملوكية”.

” وبعد ان ُوضع راس الرجاء الصالح في قبضة بريطانيا العظمي قررت فرنسا في هذا العام ان تغزو مصر باجندة استعمارية كان علي رأسها شق قناة تربط البحرين، فوصلها نابليون بونابرت بجيوشه وعزم علي تنفيذ الامر فانطلق الي برزخ السويس وهناك قدمت اليه لجنة الفرنسي لوبيير دراسات خاطئة توكد عدم إمكانية التنفيذ لاختلاف المنسوب بين البحرين، خرج بعدها نابليون متخفيا من مصر وانسحبت قواته بعد حصارا بريطانيا عثمانيا”.

” وبعد ثلاثة عقود كان قد تغير وجه مصر وجلس علي عرشها صانع النهضة الحديثة ” محمد علي باشا ” الذي استقبل وفد اشتراكيا فرنسيا يحمل دراسة هندسية دقيقة لشق القناة ومدعوما من نائب القنصل الفرنسي ” فردناند دليسبس ” ابن الدبلوماسي المخضرم ماثيو دليسبس صاحب الدور البارز في تذكية محمد علي يوم ان جلس علي عرش مصر، فتم رفض المشروع وقرر ولي النعم انشاء القناطر الخيرية كبديلا كان هو الأفضل . ”  

” وفي عام ١٨٤٠ تم تصفية محمد علي معنويا في تسوية لندن فقام احد موظفي الحكومة المصرية الفرنسي لينان دي بلفون بعمل دراسة هندسية اخري أكدت إمكانية الحفر وفي 15 ابريل 1846 أنشأ السان سيمونيون بباريس جمعية لدراسات قناة السويس و أصدر المهندس الفرنسى بولان تالابو تقريرا في أواخر العام التالي أكد فيه إمكانية الحفر .”

” ثم اعتلي سعيد باشا عرش مصر وتحت نير الولاء لمعلمه ورفيق ايام طفولته فرديناند دليسبس اصدر فرمانا بعقد الامتياز الاول، فانتفض العملاق البريطاني وتوجس الخطر من ديليسبس الذي أخذ يسابق الزمن وانطلق في العاشر من يناير عام ١٨٥٥ بصحبة الفرنسي لينان دي بلفون الي برزخ السويس، بعدها شكل لجنة هندسية دولية أصدرت في نهاية العام الكلمة الاخيرة لبدء الحفر . ”

و ُضربت الفاس الأولي بيد دليسبس نفسه في احتفالا متواضعا كان في الخامس والعشرين من ابريل عام ١٨٥٩م، وبدا العرق المصري يتساقط فوق التراب، الا ان بريطانيا والدولة العثمانية عارضا الامر بشدة فتوقف الحفر وكاد ان يموت الامر الا ان تدخل الإمبراطورة اوجيني لدي الآستانة كان له يد الحسم فاستكمل الحفر قبل ان ينقضي العام بأيام قليلة، ….

وأخذ المصري يحفر بدمائه علي مدار عقدا كاملا صفحات من المجد لن ينساها التاريخ، فقد كافح الشمس والمرض وواجة القهر بثبات منقطع النظير، و يوما بعد يوم أخذ الشريان المائي يتقدم ليسطر ويروي قصة دماءا .. ودموع .

” ثم جلس الخديوي اسماعيل علي عرش النيل فاخذ التاريخ ُيسرع نحو الفأس الأخير، والتي ضُربت في الخامس عشر من اغسطس عام ١٨٦٩ لتعلن ميلاد اول قناة صناعية في تاريخ البشر ولتعلن ان مصر قد شيدت الهرم الثاني في تاريخها الحديث، عشر سنوات كاملة شهدت ٧٤ مليون متر مكعب من الرمال ُرفعت بسواعد اكثر من مليون مصري ودماء اكثر من ١٠٠ ألفا من اولاد النيل، وتتويجا لهذا العمل الفذ انطلقت الاحتفالات الأسطورية التي أبهرت التاريخ في السادس عشر من نوفمبر عام ١٨٦٩ بحضور عظماء وملوك العالم ”

وفي يوليو من العام ١٨٨٢ توحشت الرغبة البريطانية لاحتلال مصر والسيطرة علي القناة فقام الأسطول الملكي بقذف عروس المتوسط، وقد ناضل القائد احمد عرابي كي يمنع هذا الكابوس فقترح علي ديليسبس ان يردم القناة كي يمنع توغل الأسطول الانجليزي الا ان الأخير كان قد سمح لهم باقتحام القناة فأحدث الفارق الحاسم وسقطت مصر في أيديهم وسقط عرابي أسيرا في التل الكبير ُونفي بعد ان احدث الحراك القومي ووقف بشموخ في وجه أعتي القوي العالمية من اجل حرية وكرامة مصر.

ثم اندلعت ثاني اكبر جريمة عرفها الانسان.. الحرب العالمية الأولي فتحولت منطقة القناة الي ساحة قتال بين بريطانيا وأعدائها “

” وفي مطلع مايو من عام ١٩٣٦ جرت انتخابات فاز بها حزب الوفد فانطلق بعدها النحاس باشا في مفاوضات مرهقة وكانت معاهدة ٣٦ التي رسخت للاستقلال النسبي عن بريطانيا وتم تحديد التواجد العسكري للاسطول الملكي في القناة.”

وبعد ثلاث سنوات كانت البشرية علي موعد مع اكبر جريمة عرفها الانسان .. الحرب العالمية الثانية .. التي حصدت اكثر من ٧٠ مليونا من البشر، فتبخرت كل بنود المعاهدة وانتشرت القوات الانجليزية بكثافة في كل مصر كي تصد الاجتياح النازي الذي كان علي أبوابها الغربية.

“وفي صباح الثالث والعشرون من يوليو عام ١٩٥٢ كان التاريخ يكتب كلماته الاخيرة في حياة الاسرة العلوية التي حكمت مصر لمائة وخمسين عاما، فقد قامت ثورة الشعب التي انحاذ اليها الجيش فاتحا عهد الجمهورية الوليدة، ومن قصر راس التين خرج فاروق الاول تاركا ارض النيل الي الأبد واغلق بيده صفحات المجد الغابر التي ناضل من اجلها مؤسس مصر الحديثة، وبعد عامين استطاعت مصر ان ُتوقع اتفاقية جلاء القوات البريطانية في حيّز تنفيذي لا يتعدي العشرين شهرا، وعليه كان الثامن عشر من يونيو عام ١٩٥٦ هو اليوم الذي خرج فيه اخر جندي إنجليزي من ارضها ليتحقق حلم القائد احمد عرابي بعد سبعين عاما. ”

وفي السادس والعشرون من يوليو عام ١٩٥٦ شهد ميدان المنشية في الاسكندرية يوما مشهودا ًُُ حفر في ذاكرة الأمة المصرية حين وقف عبد الناصر وبقلب الأسد أعلن تأميم قناة السويس .

” فشُن هجوما حربيا واسعا علي القناة وأرض الفيروز قادته بريطانيا وفرنسا وكذلك اسرائيل، وحينها بُعثت روح جيش عرابي من جديد وناضل الجندي المصري في بسالة متناهية النظير، حتي قام الاتحاد السوفيتي بالتهديد النووي الصريح لبريطانيا وفرنسا وعليه تغير الوضع الدولي واجبر التحالف الثلاثي علي الانسحاب، فصار هذا نصرا سياسيا كبيرا لام الدنيا.”

ثم اغلقت القناة لثماني سنوات بعد ان دخلت مصر في حربا استنزافية طويلة الامد مع اسرائيل التي استولت علي أراضي سيناء، كانت التضحيات كبيرة والكفاح مريرا، الي ان اجتمعت الإرادة المصرية وبعثت روح المقاتل القديم وبعد ان حفرها الاجداد وقف الأحفاد علي ضفافها في انتظار ان يتوقف التاريخ عند لحظة العبور المجيد …..

ومع الدقائق الاولي للساعة الثانية ظهرا صرخت مصر من أعماقها ” الله أكبر ” وبدأت ريشة التاريخ ترسم الملامح الاولي لوجه ام الدنيا المنتصر.

” فكانت القناة هي الجسر المائي الذي عبر بالأمة المصرية الي مستقبل الحرية والكرامة الانسانية . وفي ٥ يونيو ١٩٧٥ أراد السادات ان يمحو ذاكرة النكسة فتحرك في موكب رئاسي مهيب وذهب الي مبني هيئة قناة السويس ثم أعلن امام العالم عودة الحياة لشريان مصر الخالد، ومن المدمرة ٦ أكتوبر أعلن فتح القناة”

وفي صباح الخامس من اغسطس عام ٢٠١٤ هذا اليوم الفريد، انطلق .. احمس العصر .. رئيس مصر ..

عبد الفتاح السيسي الي موقع القناة وأعلن امام العالم ان المصريين علي وشك ان يحفروا بدمائهم القناة الجديدة لتكون موازية للشريان المائي القديم بطول ٣٥ كم مع توسيع وتعميق تفريعات البحيرات المرة والبلاح ليصبح الطول الاجمالي ٧٢كم مما سيضاعف من القدرة الاستيعابية لحجم الملاحة ويحقق قفزة نوعية كبيرة علي المستوي الاقتصادي وسوف يامن الريادة العالمية للقناة ويرفع من شان ومستقبل الأجيال القادمة.

وعلي مدار العام استيقظ صانع عجائب الدنيا الذي اذهل التاريخ، واليوم تتسربل مصر برداء العزة والكرامة لتحتفل بهذا الإعجاز الفذ الذي شق الدرب المنيّر ليضيء و يرسم ملامح مصر المستقبل .”

                                                                                                                                 وسام سمير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى