الفكر العميق | بقلم د. ملاك علي جمعه
تُرى .. هل كان المتنبي مُحقّاً حينما قال أن صاحب العقل يعاني الشقاء حتى لو أحاطت به أسباب النعيم، بينما يعيش الجاهل في سعادة ولو كان يحيا في ظل الشقاء ؟
أُعني هل كان المتنبي محقاً حين قال في بيت شعره الشهير : (ذو العقل يشقى في النعيم بعقلِهِ وأخو الجهالةِ في الشّقاوة ينعمُ) ؟ فنجد عمق التفكير وصعوبة التكيّف ليست كما يظنها البعض فتشير الملاحظة وتجارب الحياة، إلى أن ما ذهب إليه المتنبي فيه نسبة غير قليلة من الحقيقة، فرغم أن من الفلاسفة من رأى أن العقل ليس أداة معرفة، بل أداة وظيفتها حلُّ المشاكل والتكيّف في الحياة ومع الحياة، رغم ذلك يبدو أن كثيراً ممن أوتوا عقلاً يميل في نشاطه إلى تدبّر الجانب الفكري والفلسفي من الوجود، وحازوا القدرة على التفكير العميق، وتحليل الظواهر، والبحث عن أسبابها، ومعرفة مدلولاتها.
أقول : أن هؤلاء كثيراً ما يعانون صعوبةً في التكيّف مع ما يحيط بهم من أفكار وتصورات وقيم وأعراف وعادات، بل ومع ما يحيط بهم من أنماط الشخصيات، وأنواع الحديث، وأشكال التصرفات، فالرضا بالأفكار السائدة تصاحب الذكاء العادي أو البسيط، بل وصاحب الذكاء الاجتماعي المتفوق، وذو الذكاء العاطفي (كما يسمونه)، جميعهم ينظرون إلى القيم والأفكار وأنماط السلوك التي وجدوها في المجتمع من حولهم، فيتلقفونها، ويؤمنون بها، ويرضون بشكلها ومضمونها، وتصبح جزءاً من حياتهم وسلوكهم بيسر وعفوية، دون طول نقاش، إنها تغدو بالنسبة إليهم مسلمات، بل مقدسات، لا يجوز الخروج عليها أو المساس بها، وربما استخدموا ذكاءهم في تسهيل الامتثال لتلك الأفكار والقيم وأنماط السلوك، ليكونوا الأكثر تقيّداً بمقتضياتها، وهكذا يصيرون الأقدر على التكيف مع ذواتهم ومع الناس والأفكار، وبالتالي الأكثر راحة وطمأنينة ورضا، الغربة عن الواقع وثقافة الناس.
أما الذين يملكون ذلك النمط من الذكاء الذي يميل إلى النقد وإعادة التفكير، والشك فيما يراه الناس مسلمات، وعدم القبول بالتفسيرات الجاهزة للأحداث والعلاقات والظواهر، كثير من أولئك المفكرين والفلاسفة والأدباء والفنانين، الذين يحللون الوقائع والعلاقات إلى عواملها الأولية، ثم يعيدون ترتيبها، تجدهم كثيراً ما يعانون نوعاً من عدم القدرة على التقبّل والتكيّف، ويعيشون الإحساس بالمعاناة، والشعور بالغربة عـن الواقع والثقافة والناس، كحال المتنبي أيضاً حين قال : ( أنا في أمة تداركها الله … غريبٌ كصالحَ في ثمودِ ) فالمفكرين والمبدعين يعانون للأسباب المذكورة.
يعاني مثل هؤلاء المبدعين والمفكرين في كثير من الأحيان صعوبةً في تحقيق النجاح الاجتماعي أو المالي أو المهني، فينطلق الناس للتنظير لهم، وتوجيه النصح إليهم، وإفهامهم بأن العلم والدراسة والفكر والفلسفة والأدب لا تطعم خبزاً.
ولأن ذكاء هؤلاء المبدعين والمفكرين ذوي القدرات الفكرية واللغوية والإبداعية نادرون، ولأن قدراتهم تثير حسد كثير من الناس، فلا بد أن يلاقوا كل أنواع التقليل من شأنهم، وتبخيس أهمية قدراتهم وملكاتهم، ناهيك عن الاستهزاء بإمكاناتهم العقلية، لأنها لم تحقق لهم مالاً وفيراً، أو شهرة عظيمة، أو مكانة في المجتمع وبين الناس، حتى على مستوى الطلبة المتفوقين في المدارس، فإن بعضهم يعاني العزلة، وصعوبة التواصل، ومشقّة التكيّف والتفاعل الاجتماعي، ولأن هؤلاء الطلبة يملكون القدرة على تحقيق التميّز والتفوق على أقرانهم دراسياً، وقد تجد من يقلل من أهمية تفوقهم،
وتُذكرّهم بأن فلانا وفلاناً قد نجحوا في حياتهم رغم أنهم لم يكونوا متفوقين دراسياً، وأن آخرين تفوقوا في الدراسة ثم لم يجدوا في الحياة العملية غير الخيبة والمعاناة، كل ذلك للتقليل من أهمية التفوق الدراسي والتميّز في التحصيل، رغم أنها تشكل بذرة الإبداع في المستقبل، لو سقيت بماء الرعاية والتحفيز، بدلاً من الإحباط والتكليل، لكن مهما كانت المعاناة التي قد يجدها (ذو العقل) والخيبات والاحباطات التي يُمنى بها، ومهما قلل الناس من أهمية قدرته على التحليل والتفكير والإبداع، فإن وضـع مناهج التفكير، وبلورة أسس العلوم، ورسم معالم الفكر الإنساني، وإثراء الأدب، وتحقيق الإبداع بأشكاله، كان غالباً على يد أصحاب العقول الذين عانوا وعاشوا الشقاء في حياتهم، ولامهم الناس على ضعف ذكائهم الاجتماعي وصعوبة تكيفهم مع الواقع والناس .