«العملات البلاستيكية» محطة جديدة في التاريخ الثقافي للنقود المصرية

إذ تستعد مصر لاستقبال العملات البلاستيكية في عام 2020، فإن هذه الخطوة تحظى باهتمام ثقافي باعتبارها تشكل محطة جديدة في التاريخ الثقافي ورحلة التطور الإنساني والعلاقات المتشابكة بين القيم والنقود وتثير مقارنات لاتخلو من طرافة مع “العملات الورقية”.
وإذا كان شكل النقود يتغير مع تقدم المجتمعات الإنسانية ومتغيرات مثل ثورة الاتصالات، فإن المنظور الثقافي الاقتصادي عبر كتب وكتابات متعددة يخلص إلى أن “جوهر النقود لم يتغير وكذلك وظائفها كوسيط في المبادلات ومقياس للقيمة ومخزن للقيمة”.
و”النقود” كمفهوم ثقافي اقتصادي فرض نفسه منذ زمن بعيد على اهتمامات فلاسفة ومفكرين كبار مثل الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي رأى في القرن الرابع قبل الميلاد أن “النقود ترتبط باحتياجات السوق في المبادلات”، بينما رأى الفيلسوف الصيني القديم جوانزي أن “النقود مصدر قوة ومن ثم ينبغي أن تسيطر عليها الدولة”.
ورحب مثقفون وكتاب مثل الكاتب الكبير صلاح منتصر بالعملات البلاستيكية، وقال: “أخيرا قررت مصر إنهاء الفلوس الورق والدخول في عصر أوراق البلاستيك التي عمرها أطول وتكاليف إنتاجها أرخص وشكلها أحلى وأجمل”.
والطريف أن يلاحظ صلاح منتصر باستحسان أن إحلال العملات البلاستيكية محل العملات الورقية “ينهي هواية استخدام الأوراق النقدية وسيلة للكتابة على ظهرها ووجهها من أرقام تليفونات الى رسائل حب وغرام” لافتا أيضا إلى “صعوبة وتزوير العملات البلاستيك وطول عمر استخدامها الذي يصل إلى أربعة أضعاف عمر العملة الورقية”.
وكان محافظ البنك المركزي، طارق عامر، قد صرح بأن طرح العملات البلاستيكية الجديدة سيبدأ اعتبارا من عام 2020، فيما يؤكد الكاتب صلاح منتصر، المزايا العديدة لهذه العملات التي استخدمتها كثيرا من الدول.
والنقود ما زالت تشكل قوام بعض الكتب والكتابات الثقافية المهمة ومنها كتاب صدر في نهاية هذا العام بعنوان “المستثمر الحافي القدمين للعائلات” وهو كتاب جديد لسكوت بابي المغرم بكل ما يتعلق بالنقود وعلاقاتها المتشابكة بأوجه الحياة الإنسانية حتى إن كتاباته توصف في الغرب بأنها “دليل إرشادي شامل للنقود والقيم والسلوك الإنساني”.
وواقع الحال أن هذا الكتاب يأتي ضمن سلسلة كتب لسكوت بابي تحمل عنوان “المستثمر الحافي القدمين”، وقد شرع في كتابة هذه السلسلة إثر محنة تعرض لها مع عائلته عام 2014 عندما أتى حريق من حرائق الغابات في ملبورن على مزرعة العائلة وبيتها وكل ما تملكه.
ويلاحظ سكوت بابي بطرافة، أن بعض المثقفين اللامعين وأصحاب الأفكار الكبيرة والعقول النابهة “تربطهم علاقة خصام بالنقود” فهم “الأذكياء في أفكارهم لكنهم أحيانا من أكثر الناس حمقًا عندما يتعاملون مع النقود”.
والطريف أيضا أن كتابه الجديد موجه أساسا لصغار السن ويستهدف “مساعدة الطفل على ملء حصالته بالنقود” فيما يؤكد هذا الكاتب الذي يعيش في أستراليا، أهمية العمل الجاد.
ولفت إلى أن “القيم والسلوكيات الخيرة لاتتعارض بالضرورة مع إمكانية ملء الحصالة بالنقود سواء للكبار او الصغار والإدارة الجيدة للعملات” بمعنى أن “الثراء المادي قد لا يتعارض مع الثراء الثقافي والأخلاقي”.
ومن الغريب أن يدخل هذا الكتاب الذي يتناول “قضايا تتعلق بالحراك الإنساني وحراك النقود وكيف للمستثمر الحافي القدمين أن يغير ما تحويه حافظة النقود” ضمن قوائم أعلى مبيعات الكتب في الغرب لعام 2018، فيما بات مؤلف الكتاب بأفكاره الجامعة ما بين النقود والقيم يدخل ضمن الظواهر الثقافية اللافتة في أستراليا والغرب الثقافي ككل.
وفي هذا العام الذي يستعد للرحيل قد يأمل البعض في وضع صور كبار الآباء المثقفين والمبدعين المصريين مثل الروائي النوبلي نجيب محفوظ على العملات كما حدث عندما وضعت صورة لجين أوستن على العملة البريطانية من فئة الـ10 جنيهات استرليني لتكون أول كاتبة في العالم تحظى بهذا التكريم وليتداول صورتها كل البشر الذين يتداولون هذه العملة.
ولئن ثار نوع من الجدل حول خلفيات هذا القرار ومعايير اختيار كبار المبدعين والشخصيات الأدبية التي توضع صورها على العملات النقدية فواقع الحال أن قرار اعتماد صورة جين اوستن على ورقة البنكنوت من فئة الجنيهات العشرة الإسترلينية، جاء بناءً على التماس رفع للبنك المركزي في بريطانيا ووقع عليه 35 ألف شخص.
وتحمل أوراق البنكنوت صورة جاين أوستن مع خلفية للبيت الذي نشأت فيه وعبارة جاءت على لسان شخصية في روايتها “كبرياء وتحامل” وهي: “أرى الآن وفي نهاية المطاف أنه لا متعة تعادل متعة القراءة”.
وجاين أوستن التي ولدت في بلدة “أوستن” بمنطقة ستيفنسن يوم السادس عشر من ديسمبر عام 1775 وقضت يوم الثامن عشر من يوليو عام 1817 في هي صاحبة روايات ذاعت شهرتها في العالم وبعضها تحولت إلى أفلام سينمائية مثل “كبرياء وهوى” و”كبرياء وتحامل” و”العقل والعاطفة” فيما تتناول رواياتها جوانب من حياة طبقة ملاك الأراضي البريطانيين في القرن الثامن عشر.
ولئن كانت صورة جاين أوستن على العملة البريطانية توميء لطرف من العلاقة بين الثقافة والنقود فمن المنظور الثقافي يشكل “مفهوم النقود” علامة فارقة من علامات تطور المجتمعات البشرية وإنجازا كبيرا للإنسانية يوضع الى جانب إنجازات مثل ظهور اللغة والكتابة ويصعب نسبتها إلى مكتشف أو مخترع بعينه، كما هو الآن الحال مع “ظاهرة العملات البلاستيكية ناهيك عن العملات الرقمية”.
و”النقود” أو “العملات” قضية تفرض نفسها دوما على الثقافة الاقتصادية في العالم وتحفز على إصدار كتب جديدة وخاصة في الثقافة الغربية مثل كتاب “نهاية الخيمياء: النقود والخدمات المصرفية ومستقبل النظام العالمي”، وهو بقلم ميرفين كينج وحظي بتعليقات لشخصيات ثقافية واقتصادية لامعة مثل عالم الاقتصاد النوبلي الأمريكي بول كروجمان.
ومع البزوغ اللافت لظاهرة “العملات البلاستيكية” تفرض الظاهرة أسئلة متعددة من بينها: “هل نقول في يوم ما وداعا للعملات الورقية” وهل “تدخل العملات الورقية متحف التاريخ الإنساني وتتحول إلى أثر تاريخي وثقافي مثل دار ضرب العملة في قلعة صلاح الدين القاهرية بينما تهيمن العملات البلاستيكية على الوجود الواقعي للتعاملات المالية بين البشر”؟!.
وبعد أن أعيد ترميم دار ضرب العملة بقلعة صلاح الدين في أواخر العام قبل الماضي، انطلقت دعوات لتحويل الدار التي أقيمت في عصر محمد علي عام 1827 إلى متحف للعملات الآثرية، بينما تعمل الآن “مصلحة سك العملة” التابعة لوزارة المالية بكامل طاقتها التشغيلية لتلبية احتياجات المواطنين والسوق.
ومع إعلان محافظ البنك المركزي طارق عامر، عن دخول عصر العملات البلاستيكية، اعتبارا من عام 2020 اتجهت بعض الصحف ووسائل الإعلام لنشر قصص صحفية وإعلامية دالة وطريفة عن رحلة العملات عبر التاريخ المصري المديد مع إشارات للعملات الذهبية والفضية فيما حل عصر النقود الورقية عام 1899 وهاهي مصر تستعد للعملات البلاستيكية المصنوعة من مادة صديقة للبيئة وهي “البوليمر” كعملة بديلة عن الورق.
وكان طارق عامر، قد نوه بأن العملات البلاستيكية ستصدر في مطبعة البنك المركزي بالعاصمة الإدارية الجديدة مصر باستخدام أحدث تقنية بنكنوت في العالم، بما يشكل نقلة نوعية جديدة في التاريخ الثقافي المصري للنقود، وسواء كانت “ورقية أو بلاستيكية ” فالنقود من منظور ثقافي تعبر عن قدرة الإنسان على التعامل الاقتصادي في الحياة اليومية “من خلال رموز”، فيما يوضح علماء في الاقتصاد أن “النقود ليست شيئا ماديا بقدر ما هي مفهوم اجتماعي في صور وأشكال مختلفة من الرموز”.
وعلى مشارف العام الجديد، تتوالى الإشارات المبشرة بعصر جديد في مصر المستقبل ومن بينها العملات البلاستيكية التي تعبر عن حقائق عصر جديد يلبي أحلام وأشواق الإنسان المصري الفاعل أبدا في تاريخ الكون منذ فجر التاريخ.