أكدت الهيئة العامة للاستعلامات أن فيتنام، التي من المقرر أن يزورها الرئيس عبدالفتاح السيسي كأول زعيم مصري يطأ هذه الأرض، تملك تجربة إنسانية جديرة بالتأمل والاستفادة من دروسها، خاصة مع كثير من التشابه بين ظروفها وظروف مصر في عدد السكان والحروب والمشكلات الاجتماعية والبيئة الإقليمية، مع معطيات أكثر صعوبة اجتازها الفيتناميون وعبروا ببلادهم منها إلى مسار النمو والحداثة والتقدم، حتى صنف شعبها ضمن أكثر شعوب العالم سعادة، وذلك طبقًا لتقرير مؤشر السعادة في العالم الذي ضم نحو 155 دولة بمعايير كل من متوسط العمر المتوقع، ومستوى الرفاهية، والمساواة، والعوامل البيئية.
وأضافت الهيئة، في تقرير لها، إن شعب فيتنام حفر صورة أسطورية لبلاده في أذهان العالم مرتين خلال نصف قرن: الأولى في الحرب التي لا مثيل في دمارها عبر التاريخ الحديث للإنسانية، والثانية في الانبعاث من ركام هذه الحرب، إلى بناء دولة مستقرة ناهضة، تزرع وتصنع وتنتج وتصدر، وتستقبل ملايين السياح ومليارات الدولارات من الاستثمارات.
وأشاد التقرير بإرادة شعب فيتنام الذي قرر أن يصنع تاريخًا في النضال، فملأ ذاكرة الدنيا بطولات وصمودًا، فتحرر أولًا من الاستعمار الفرنسي، ثم ألحق هزيمة ساحقة بأكبر قوة عسكرية في التاريخ الإنساني الحديث وهي الولايات المتحدة الأمريكية (وحلفاؤها المحليون)، في ملحمة هزت ضمير الإنسانية وحازت تقدير العدو قبل الصديق، وخلدتها السينما العالمية في عشرات الأفلام التي جسدت معاناة الجنود الأمريكيين، وبشاعة ما يقترفه جيشهم، وصمود المقاومة الفيتنامية، ورغم مرور عشرات السنين مازالت حرب فيتنام الأولى والثانية، معينًا لا ينضب كمصدر إلهام لصناع السينما الأمريكية والكورية والإيطالية والفرنسية.
وأضاف التقرير ” لقد خرجت أمريكا تجر أذيال هزيمتها و58 ألف جثة لقتلاها وثلاثمائة ألف جريح، بينما تركت فيتنام تلعق جراح وطن مدمر سقط منه أكثر من مليوني قتيل معظمهم من شمال فيتنام، وثلاثة ملايين جريح و13 مليون مشرد من الشمال يمثلون نصف سكانه آنذاك، ولم يبق في البلاد مبنى سليمًا، ولا جسرًا قائمًا، ولا مصنعًا ولا منشأة، بل لم تكن بها شجرة قائمة ولا أرضًا تصلح لشىء، بعدما مسح الأمريكيون كل مقومات الحياة للنبات والحيوان على أرضها بإلقاء 100 ألف طن من النابالم الحارق، و11 مليون جالون من المبيد الحشري القاتل للحياة والنباتات الذى عرف باسم السائل البرتقالي، إضافة إلى إلقاء 21 مليون قنبلة و14 مليون طن من القذائف المتنوعة.
وتابع التقرير” والأسوأ من كل ذلك، تركت الحرب في فيتنام شعبًا منهكًا مثخنًا لا يصلح لشىء، إلا للقتال وحروب العصابات، شعب منقسم بين شقين، حارب كل منهما الآخر إلى حد الإبادة، وانقسامات عرقية إلى حد التطهير العرقي، فدخلت فيتنام في محنة أسوأ من الحرب، وغرقت لمدة عشر سنوات أخرى في حروب داخلية وخارجية، وفشل القادة الذين انتصروا في الحرب في إدارة البلاد، ففر السكان بالقوارب باحثين عن لجوء خارجي، ووقع الباقون في براثن الجوع والبطالة”.
ونوه بأنه في ديسمبر عام 1986 حانت لحظة مواجهة الحقيقة، وشجاعة الاعتراف بالخطايا، وامتلكها فعلاً مؤتمر الحزب الشيوعي الفيتنامي، في اجتماع تاريخي (يشبه ما فعلته الجارة الكبرى الصين في الاجتماع الحادي عشر للحزب الشيوعي الصيني عام 1978)، فاعترف القادة الفيتناميون بالفشل، وبدأت حملة النقد الذاتي وعلاج الأخطاء والعيوب، في السياسة والحكم وفى الاقتصاد والإنتاج، وأعلنت سياسة التجديد، “Doi Moi”، مع إيلاء أولوية قصوى للإصلاح الاقتصادي من أجل خلق مجتمع متعدد القطاعات في السوق التي تنظمها الحكومة، في الوقت ذاته تعزيز البيئة القانونية وتجديد الحزب والدولة والهياكل الإدارية، ومنذ ذلك الحين بدأ انفتاح الاقتصاد الفيتنامي وتحولت من الاقتصاد المخطط مركزيا بشدة إلى سوق تعددية.
ونوه بأنه لم يكن طريق الإصلاح سهلا، ولم تبدأ ثماره في الظهور إلا مع بداية تسعينيات القرن الماضي، عندما تحقق الاكتفاء الذاتي في الأرز وصدرت فيتنام أول مليون طن من الفائض، ثم انطلق النمو وتحققت معجزة اقتصادية في ربع قرن، تقول أرقامها اليوم: إن متوسط النمو السنوي بلغ نحو 7% من عام 1990 حتى عام 2016، وتراجعت نسبة المواطنين تحت خط الفقر من 60% عام 1993 إلى 11% عام 2014، وانتقل الاقتصاد من أفقر دول العالم بمتوسط دخل الفرد 100 دولار في نهاية السبعينيات إلى إحدى دول الدخل المتوسط بنحو 2000 دولار نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالي، الذى بلغ 200 مليار دولار مقسوما على عدد السكان الذى يقرب من 100 مليون نسمة.
وتضاعفت الصادرات بزيادة نحو 20% سنويًا حتى وصلت إلى 165 مليار دولار عام 2014، والواردات 150 مليار دولار بفائض 15 مليار دولار فى الميزان التجاري، وبلغ التضخم أقل من 1% عام 2015 بعدما تجاوز 76% عام 1990، بينما وصل عجز الميزانية إلى حدود 1.2% من الناتج المحلى الإجمالي، والدين العام الخارجي أقل من 50% من الناتج المحلي الإجمالي.
وأشار التقرير إلى أن عدد العاملين بلغ نحو 55 مليون نسمة في الترتيب 12 عالميًا، والبطالة 3.5 % في الترتيب 30 عالميًا، والاستثمارات الأجنبية المباشرة تتضاعف بسرعة نتيجة رخص تكلفة العمالة المتعلمة والمدربة بعدما تحول شباب فيتنام إلى ثروة وطنية نتيجة سياسة تعليمية ناجحة ينفق عليها أكثر من 7% من الناتج المحلي الإجمالي.
وزار فيتنام نحو 8 ملايين سائح حققوا دخلا بلغ 16 مليار دولار في عام 2015، وتحولت فيتنام إلى خامس أكبر دولة مصدرة في العالم للملابس الجاهزة بنحو 20 مليار دولار سنويا، رغم أنها لا تزرع القطن وإنما تستورده من الولايات المتحدة والهند وجنوب أفريقيا، ثم تقوم بتصنيعه وتصدير الملابس الجاهزة.
وهكذا عرف شباب العالم الذي لم يعاصر الحرب في فيتنام مرتين: مرة بنضالها التاريخي كما جسدته لهم السينما، ومرة بإنتاجها الغزير المتميز فيما يرتدونه من ملابس وأحذية رياضية تقتحم كل أسواق العالم.
وذكر التقرير أن التجربة الفيتنامية عميقة في الحرب، وفي التحول إلى التنمية والتقدم، وحافلة بالدروس والتفاصيل التي يمكن فقط اختصارها في عدد من المحطات التي رصدها كالآتي:
فيتنام..تاريخ وجغرافيا
تقع جمهورية فيتنام الاشتراكية في أقصى شرق شبه جزيرة الهند الصينية جنوب شرقي آسيا على خليج تونكين وبحر الصين عاصمتها هانوي، تحدها من الشمال الصين ومن الشرق خليج تونكين، ومن الغرب لاوس وتايلاند وكمبوديا، ومن مدنها مدينة هوشي منه أو سايجون سابقا وهايفونج، وتبلغ مساحتها نحو 331 ألف كيلو متر مربع وسكانها نحو 96 مليون نسمة عام 2014.
ويرجع تاريخ المنطقة المعروفة حاليا باسم “فيتنام” إلى عدة آلاف من السنين، وفي العصر الحديث أقدمت فرنسا على سلسلة من الغزوات العسكرية منذ عام 1859 حتى عام 1885 عندما أصبحت البلاد كلها جزءا من مستعمرة الهند الصينية الفرنسية، وفرضت الإدارة الفرنسية تغييرات سياسية وثقافية مهمة في المجتمع الفيتنامي.
ـ الحرب الفيتنامية الأولى
في عام 1941، ظهرت “حركة التحرر الشيوعية القومية ” فيت منه، تحت حكم هوشي منه، وسعت إلى استقلال فيتنام عن فرنسا وكذلك مقاومة الاحتلال الياباني، ولقي نحو مليوني فيتنامى، أي نحو 10٪ من السكان حتفهم خلال ما يسمى بمجاعة فيتنام عامي 1944-1945، وفي أعقاب الهزيمة العسكرية لليابان وسقوط إمبراطورتيها الفيتنامية في أغسطس 1945، استولت قوات فيت منه على هانوي وأعلنت الحكومة المؤقتة.
وحاربت فرنسا ضد الفيت منه، أو الحلف الثوري لاستقلال فيتنام، التابع لهوشي منه، لثماني سنوات (1946 إلى 1954)، لكنها هزمت عام 1954 بعد معركة “ديان بيان فو”، ووقعت اتفاقية سلام في جنيف بسويسرا عام 1954، قضت بتقسيم مؤقت لفيتنام إلى شطرين يفصل بينهما خط عرض 17، حيث جزء من الشمال مع “هوشي منه ” فيتنام الديمقراطية الشعبية”، وقسم آخر في الجنوب هو جمهورية فيتنام بزعامة ديم، ولكنها نادت بانتخابات على مستوى الدولة في عام 1956 لإعادة توحيد البلاد، وهو مالم يحدث.
حرب فيتنام وأمريكا
وفي عام 1957، بدأت قوات الفيت منه في الجنوب في التمرد على حكومة ديم، وعرف هؤلاء بالفيت كونج، وفي عام 1959، أعلنت شمال فيتنام تأييدها لهذه الفئة وأمرتها بشن كفاح شامل ضد حكومتها، وفي عام 1960، شكل الثوار جبهة التحرير الوطنية، وظلت أمريكا تساند حكومة ديم، في حين كانت حكومة هانوي الشيوعية في شمال فيتنام مصممة على توحيد شطري البلاد.
ومنذ فبراير 1965، توالى القصف الأمريكي لشمال فيتنام، وفي 6 مارس تم أول إنزال للبحرية الأميركية، وظل الوجود العسكري الأمريكي يزداد في فيتنام ليبلغ في نهاية 1965 ما ناهز 200 ألف جندي، ثم وصل في صيف 1968 إلى 550 ألفا، إضافة إلى نحو 800،000 من قوات جنوب فيتنام الجنوبية.
وأضاف التقرير إنه مع ما تكبدته أمريكا من خسائر بشرية ومادية، انقسم الشعب في الولايات المتحدة بسبب تورطها في الحرب، والممارسات البشعة واللاإنسانية التي عامل بها الجيش الأمريكي المواطنين الفيتناميين، ورأى البعض أن الولايات المتحدة تساند الحكومات الفاسدة وغير الشعبية في جنوب فيتنام، ونادوا بانسحاب الولايات المتحدة، وقاد هذا التيار رموز من المجتمع الأمريكي كان من بينهم الملاكم الأسطوري محمد على كلاي الذى رفض الخدمة في الجيش الأمريكي في فيتنام، ودفع ثمن ذلك تجريده من لقبه.
وأخذت الحرب منحى خطيرا حين قامت قوات شمال فيتنام يوم 30 مارس 1972 بهجوم كاسح نحو الجنوب متجاوزة بذلك المنطقة المنزوعة السلاح، وكان رد الفعل الأمريكي مزيدا من القصف الجوي، وبينما كانت نيران الحرب تشتعل بدأت المفاوضات السرية بين الطرفين، حيث اجتمع مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي وقتها هنري كيسنجر بمندوب شمال فيتنام دوك تو، وفي 23 يناير 1973 أعلن عن التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ يوم 28 من ذات الشهر، وتضمن الاتفاق انسحاب القوات الأمريكية من جنوب فيتنام خلال الشهرين التاليين للتوقيع، وإطلاق سراح الأسرى من الطرفين خلال 15 يوما من التوقيع.
وبين التقرير أنه لم ينته مارس 1973، حتى غادر آخر جندي أمريكي من فيتنام، غير أن فضيحة ووترجيت التي أجبرت نيكسون على الاستقالة في 9 أغسطس 1974، جعلت أمريكا غير قادرة على مساندة حكومة سايغون، وانتهز الشماليون فرصة انشغال واشنطن بووترجيت ومعاداة الرئيس الفيتنامي الجنوبي للشيوعيين الجنوبيين، فشنوا هجوما كاسحا على الجنوب توج بدخول سايغون يوم 30 أبريل من ذات السنة، وفي عام 1976، استطاعت هانوي أن توحد شمالي وجنوبي فيتنام في دولة فيتنامية واحدة.
سنوات المعجزة
وأضاف تقرير الهيئة العامة للاستعلامات إنه في ديسمبر عام 1986 مارس مؤتمر الحزب الشيوعي في فيتنام النقد الذاتي، واعترف بأخطاء السنوات الماضية، وتقييم نتائجها بعناية، وتحليل الأخطاء والعيوب، وأعلن ما سماه “سياسة التجديد”، وتحديث هياكل الدولة، وقرر تبني سياسية التحول من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق.
كما قرر المؤتمر على وجه التحديد الحد من الدعم الذي تقدمه الدولة، وتنويع ملكية الأصول المملوكة ملكية عامة، وتشجيع وتحفيز تنمية المؤسسات الخاصة والأفراد والقطاعات الاقتصادية، والاستغلال الأمثل للموارد من أجل تنمية الإنتاج وتبادل السلع، ووضع سياسات من أجل دمج فيتنام في الاقتصادات العالمية والإقليمية، وزيادة أنشطة التجارة الخارجية وتشجيع الاستثمار المباشر، واتخاذ إجراءات في مجال الإصلاح الإداري جنبًا إلى جنب مع الإصلاحات المتخذة في مجال السياسة الاقتصادية، والجمع بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية من أجل تحقيق الاستقرار السياسي والاستقرار الاجتماعي.
وبدأت فيتنام اعتبارا من عام 1989، في تصدير نحو 1 – 1.5 طن من الأرز، وازداد الأمن الداخلي رسوخا، والعلاقات الخارجية استطاعت تخليص البلاد من الحصاروالعزلة، وفي يونيو 1991، أكد الحزب الشيوعي عزمه على مواصلة عملية التجديد والتغلب على الصعوبات والتحديات، والحفاظ على استقرار الداخلي السياسي، وأقر السياسة الخارجية المنفتحة على العالم.. مؤكدا أن فيتنام تريد أن تكون صديقة لجميع البلدان الأخرى في المجتمع الدولي من أجل السلام والاستقلال والتنمية”.
وفي عام 1989 تحسنت العلاقات مع الصين عقب الانسحاب من كمبوديا، وفى عام 1994 رفعت الولايات المتحدة الحظر التجاري الذي كانت قد فرضته على فيتنام لأكثر من ثلاثين سنة، وفي عام 1995 انضمت فيتنام إلى عضوية (الآسيان) رابطة دول جنوب شرق آسيا والتي تضم في عضويتها كل من إندونيسيا، ماليزيا، الفلبين، سنغافورة، تايلاند، بروناي، لاوس، بورما، كمبودي.
وفي الفترة (1991- 1998) بلغ معدل النمو الاقتصادي 8 % سنويا، وفى عام 1999 تراجع النمو إلى 4.5 % جراء الأزمة الاقتصادية التي عصفت بمنطقة جنوب شرق أسيا، ثم عاد الصعود إلى نحو 7%، وبحلول سبتمبر 2000 بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة 36 مليار دولار في 2500 مشروع، وباتجاه فيتنام نحو التصنيع، انخفضت نسبة مساهمة الزراعة في الاقتصاد القومي من نحو 25% عام 2000 إلى 18% عام 2014، بينما ارتفعت نسبة مساهمة الصناعة من 36% إلى 38% في ذات الفترة.
وخلال السنوات الخمس 2009- 2014 زادت صادرات فيتنام بمعدل 21.1% سنويا إذ زادت الصادرات من 63.5 مليار دولار عام 2009 إلى 165 مليار دولار عام 2014، وأهم صادراتها المعدات والأجهزة الإلكترونية وأجهزة الكمبيوتر وأهم الدول المستوردة: الولايات المتحدة والصين واليابان وكوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة، بينما زاد حجم الواردات من17،7 مليار دولار إلى 151 مليار دولار من كل من الصين وكوريا الجنوبية واليابان وتايوان وتايلاند وسنغافورة.
وتتوقع المؤسسات المالية الدولية أن اقتصاد فيتنام لو استمر في تحقيق نسبة النمو الحالية لعشر سنوات أخرى – وهو الأمر المتوقع – سوف يصبح أحد النمور الاقتصادية القوية في منطقة جنوب شرق آسيا.