السينما في العيد فرحة وفرصة ومناسبة لاستدعاء الذكريات
![](https://propaganda-eg.com/wp-content/uploads/2017/09/2017-04-14-1492129797-5839341-17949952_10210284771730097_727173325_o.jpg)
بقدر ما تشكل السينما في أيام العيد جزءا من الفرحة والاحتفال فإنها فرصة للمنتجين الذين يخوضون سباقا للفوز بأكبر نصيب من التذاكر والأرباح كما أنها مناسبة لاستدعاء الذكريات التي تقترن بأفلام ودور سينما بعينها وتشكل جزءا عزيزا من الذاكرة الثقافية سواء على مستوى الفرد أو المجتمع.
وتشكل أيام الأعياد مثل عيد الأضحى المبارك ما بات يعرف بالموسم السينمائي حيث تعرض دور السينما الأفلام الجديدة كما هو الحال الآن في دور السينما التي تعرض على شاشاتها الكبيرة الأفلام التي انتظرت العيد على أمل الظفر بأعلى نسب المشاهدة والفوز في سباق الموسم وأكبر نصيب من كعكة الأرباح مثل “الكنز” و”الخلية” و”خير وبركة” و”هروب مفاجيء” و”أمان ياصاحبي” و”بث مباشر”.
ولئن بقت دور السينما بالنسبة للكثيرين جزءا من رحلة أيام العيد المبهجة فلعل لكل مشاهد للشاشة الكبيرة ذكرياته الخاصة والحميمة مع دور السينما ناهيك عن أفلام بعينها بما يشكل ككل جزءا أصيلا من الذاكرة الشخصية والعامة معا لمجموع المصريين أو ذاكرتهم الفردية والجماعية.
ولن يختلف الأمر كثيرا على مضمار الذكريات بين ما يعرف بجمهور الدرجة الثالثة وجمهور الدرجة الأولى في دور السينما فلكل ذكرياته الحميمة وذاكرته القابضة بالشجن والحنين على وقائع بعينها بصرف النظر عن الموقع والموضع أمام الشاشة الكبيرة بأطيافها الساحرة.
وفي الموسم الحالي لأفلام العيد حيث تتدفق الجماهير لمشاهدة جديد الأفلام تتراوح أسعار التذاكر لدخول دور السينما في قلب القاهرة أو ما يعرف “بسينمات وسط البلد” ما بين 25 جنيها وصولا إلى 150 جنيها وتختلف الأسعار باختلاف دور السينما فضلا عن موقع المشاهد أمام الشاشة الكبيرة.
وفي بعض الأحياء القاهرية مثل حي شبرا كانت هناك دور سينما مكشوفة تطل عليها البيوت ولها ذكريات مع الكثير من أبناء المنطقة مثل الكاتبة الدكتورة لميس جابر التي قالت انهم كانوا يشاهدون الأفلام من شرفات المنازل.
وسواء في حي شبرا أو غيره من أحياء القاهرة فضلا عن المدن المصرية الأخرى فإن البعض من كبار السن يستدعون بأسى ذكريات دور سينما هدمت واختفت لتحل محلها أبراج سكنية وقد يتحول خبر عن هدم دار سينمائية قديمة إلى مناسبة تتجلى فيها “نوستالجيا” الحنين للماضي بالنسبة لأجيال ترددت كثيرا أيام الشباب على هذه الدار السينمائية”.
وتجلت مثل هذه الحالة عند الحديث مؤخرا عن هدم “سينما علي بابا” التي كانت قائمة في منطقة بولاق أبو العلا القاهرية بينما تحدث البعض في صحف ووسائل إعلام بمفردات الحنين عن هذه السينما التي كانت تعرض ثلاثة أفلام بأسعار زهيدة لرواد حفلاتها ممن يعرفون بجمهور الدرجة الثالثة أو “الترسو” كما استعدى أسماء دور سينمائية أخرى دخلت في ذمة التاريخ مثل “سينما الكورسال” و”سينما شبرا بالاس”.
وهناك كتاب وأدباء مثل المبدع الراحل عبد الحميد جودة السحار و الكاتب والروائي إبراهيم عبد المجيد كتبوا عن ذكرياتهم مع دور السينما القديمة في القاهرة والإسكندرية واستعادوا أيضا ذكرياتهم مع الفنانين المصريين إلى جانب مشاهير هوليوود والسينما الأوروبية على شاشات هذه الدور السينمائية القديمة مثل يول براينر وانتوني كوين وشارلز برونسون وكلارك جيبل ناهيك عن مارلين مونرو.
فللذكريات في دور السينما عبقها ورائحتها المميزة سواء كانت في أحياء شعبية أو مناطق راقية فيما تمنح هذه الذكريات نكهة لحظات بعينها في أيام لا تشبه بعضها واحتفظت بها الذاكرة وكثيرا ما تكون موضع استدعاء في جلسات تحلو في العيد بين الأهل والأصدقاء وتتسع فيها مساحات الحميمية وشراكة المشاعر في أجواء الفرحة والاحتفال بالعيد.
والكثير مما يعرف بدور سينما وسط البلد في القاهرة يرجع تاريخها إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي وهذا الموضوع كان محورا لكتاب جديد صدر بالفرنسية للكاتبة والباحثة ماري كلود بينار ويحوي العديد من ذكريات الفنانين والمشاهدين مع دور السينما بين عامي 1930 و1980 وبما يشكل إضافة للذاكرة الثقافية بشهادات عن “زمن مضى”.
فتاريخ مدينة عريقة كالقاهرة يمكن سرد جانب هام منه عبر الحديث عن دور السينما القاهرية وصالات العرض كما يتجلى في هذا الكتاب الذي ينطوي أيضا على فائدة ثقافية واضحة في رصد تطورات المجتمع المصري والاختلاف في الذائقة الثقافية بين الأجيال.
وإذ يحوي كتاب هذه الباحثة الفرنسية أسماء دور سينما قاهرية قديمة ولها دلالات عند أجيال من عشاق الفن السابع مثل “سينما اوليمبيا” القريبة من الموسكي و ميدان العتبة فإنه يستعيد أيضا أسماء رائدة في هذا المجال مثل محمد جعفر الذي أسس مع شقيقه مصطفى سبع دور عرض سينمائية قاهرية بعد بعثة لدراسة إدارة السينما في أوروبا تولى أمرها المفكر والاقتصادي المصري الكبير طلعت حرب.
وفيما اقترنت بعض الأفلام في الذاكرة الفردية والجماعية بحالة من الجدل العام على مستوى المجتمع فان دور السينما و”أفيشات” الأفلام تشكل مصدرا مما يسمى “بالمصادر غير التقليدية للتاريخ” ومن بينها النصوص الأدبية والصور الفوتوغرافية فضلا عن المعمار بتطوراته ومغزاه الثقافي والحضاري.
وهكذا تدخل دور السينما بملصقاتها وأفيشاتها وحتى تكويناتها المعمارية في صميم عملية بناء ذاكرة الجماعة الوطنية التي تعيش معا تحت سماء الوطن الواحد لتكون بدورها جزءا من مخزون الذاكرة الإنسانية لسكان هذا الكوكب الأرضي الواحد.
وكذلك تشكل الصور المتتابعة على الشاشة السينمائية الكبيرة احد تكوينات الإبداع الإنساني لبناء ذاكرة العالم عبر مشاهد جمالية تتحدى النسيان وتحقق المتعة معا بينما قد يستدعي البعض في هذا العيد المبارك ذكريات الطفولة والاستعداد للتوجه مع العائلة إلى دار السينما لمشاهدة فيلم جديد في أيام الأعياد.
وإذا كانت دور السينما جزءا أصيلا من صناعة السينما أو “صناعة البهجة” فالسينما المصرية حققت منذ ثلاثينيات القرن العشرين
مكانة فنية وثقافية بارزة لمصر في محيطها العربي والإقليمي والقاري.
ودون الوقوع في “التباسات إعادة الإنتاج الماضي” أو “الاستسلام الكامل لنوستالجيا الحنين وأمواج الماضي” فنحن بحاجة في هذا السياق لرؤية معاصرة ومتطورة على أساس معطيات الحاضر وطموحات المستقبل والقراءة الواعية للمتغيرات تستوحي “نموذج طلعت حرب” الحاضر في الذاكرة الثقافية والوطنية المصرية بمشاريع مثل استديو مصر السينمائي ودعمه للمسرح وهي مشاريع خدمت الثقافة دون أن تغفل عن عامل الربح المادي.
فهذا المثقف الوطني والمفكر الاقتصادي المصري الراحل الذي قضى في الثالث عشر من أغسطس عام 1941 كان يؤمن بأن تطوير الاقتصاد يبقى رهنا بالتنوير الثقافي بقدر ما رأى أن الثقافة مجال رحب للاستثمارات الوطنية وهي رؤية تجلت عمليا في مشاريعه الثقافية وتأسيسه لأول استديو سينمائي مصري لخدمة إبداعات الفن السابع للمصريين فضلا عن قيامه بإيفاد كوكبة من الشباب المصري لدراسة السينما في أوروبا ومن بينهم أحمد بدرخان ونيازي مصطفى.
وذاكرة “الفن السابع” أو السينما تحتفظ بأفلام الرواد مثل محمد عبد الوهاب كرائد من رواد التمثيل والغناء على الشاشة الكبيرة منذ فيلم “الوردة البيضاء” عام 1933 مرورا بأفلام “دموع الحب” و”يحيا الحب” و”يوم سعيد” و”ممنوع الحب”و”رصاصة في القلب” و”لست ملاكا” وحتى “غزل البنات” عام 1949.
كما أن هذه الذاكرة التي عرفت “جماليات سينما محمد خان” الذي قضى منذ نحو عام غير منبتة الصلة بأسلوب تبناه شيخ المخرجين المصريين محمد كريم و هو أول من اشتغل بالإخراج السينمائي من المصريين وعرف بالعناية الفائقة “بالمنظر ولوازمه ومحتوياته ” وكان يقدم الطبيعة في اجمل صورها وهو ما يتجلى في أفلام مثل “زينب” و”الوردة البيضاء”.
ولئن كان محمد خان من رواد “الواقعية الجديدة” فالسينما المصرية كان لها فضل السبق في إدخال “الواقعية” في الفن السابع بالمنطقة كلها بإبداعات المخرج كمال سليم منذ عام 1939 وظهور فيلم “العزيمة” ليدشن مدرسة الواقعية في مواجهة الرومانسية المغرقة لشيخ المخرجين المصريين محمد كريم.
أما كمال سليم بواقعيته فهو يعالج مشاكل اجتماعية من صميم الواقع المصري عن طريق تقيم “شخصيات مصرية نعرفها تماما لأنها تعيش معنا ونلتقي بها كل يوم في حياتنا اليومية”.
وفي عام 1965 اختار الناقد والمؤرخ السينمائي الفرنسي جورج سادول في كتابه “قاموس الأفلام” فيلم العزيمة لكمال سليم كواحد من الأفلام العالمية في تاريخ السينما بل إن سادول اعتبر هذا الفيلم المصري الذي ظهر عام 1939 “يفوق الأفلام الفرنسية والإيطالية التي ظهرت في الفترة ذاتها”.
وفيما جاء صلاح أبو سيف ليمسك كمخرج مصري كبير بخيط الواقعية من جديد ولتعبر أفلامه مثل “الأسطى حسن” وريا وسكينة” و”الفتوة” عن اللحظة التاريخية المصرية كان هناك أيضا المخرج توفيق صالح طويلا الذي عرف بأسلوب الواقعية الجديدة المتأثر بالمدرسة الإيطالية مع إبداع مصري خالص وأصيل كما تبدى في “صراع الأبطال” و”درب المهابيل” واستحق إعجاب وتقدير كل عشاق السينما لإبداعاته الرفيعة المستوى والتي دخلت على الرغم من قلة عددها في قائمة أفضل 100 فيلم مصري.
والسينما المصرية- كما تقول ذاكرتها الموثقة-حققت منذ ثلاثينيات القرن العشرين مكانة فنية وثقافية بارزة لمصر في محيطها العربي والإقليمي والقاري بل إن الفيلم المصري كان موضع ترحيب في دور العرض السينمائي بدول مثل فرنسا واليونان وإيطاليا وبريطانيا والنمسا وألمانيا وسويسرا وحتى البرازيل فيما حظت بمزيد من الحضور بفضل نجوم كبار كعمر الشريف.
ولئن كانت السينما المصرية قدمت في عصرها الذهبي نجوما مازال العالم يتذكر إبداعهم الفني وحضورهم الطاغي كما تواصل دورها بنجوم مثل خالد النبوي فإن عمر الشريف يبقى الأشهر عالميا وهو الذي ترك بصمة لا تمحى في الثقافة الغربية وداخل هوليوود على حد تعبير مارلون براندو عراب السينما الأمريكية الراحل واحد اعظم ممثلي القرن العشرين.
ومازال المصريون يبدعون في كل أوجه الحياة بما فيها السينما ويصنعون صورة مصر كما تهواها القلوب العاشقة وهم يمتلكون ذاكرة ثقافية ثرية حقا وذكريات لعلها تتجدد مع العيد السعيد، إنها مسافات حميمة في القلب يسطع فيها بريق الذكريات.