«السترات الصفراء» التحدي الأخطر أمام الرئيس الفرنسي في الذكرى الأولى لانطلاقها
عام كامل مرَ على الانطلاقة الأولى لحركة “السترات الصفراء” في فرنسا، تلك الحركة التي شكلت واحدة من أقوى الاحتجاجات الاجتماعية في تاريخ البلاد، ومثلت أخطر أزمة واجهت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ وصوله إلى عرش الإليزيه قبل نحو عامين ونصف.
وفي الذكرى السنوية الأولى لظهورها، نظم أعضاء حركة “السترات الصفراء” الفرنسية سلسلة من المظاهرات في مختلف أنحاء البلاد خلال اليومين الماضيين في محاولة لإظهار قوتهم وقدرتهم على حشد الدعم. وأطلق الناشطون في صفوف الحركة حملة واسعة، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، تمهيدا للعودة إلى الساحة من جديد في مختلف المدن الفرنسية.
ورغم الإجراءات الأمنية المتشددة التي أقرتها الحكومة والقوى الأمنية.. لم يمنع ذلك اندلاع أعمال العنف، حيث أطلقت شرطة باريس الغاز المسيل للدموع في شمال غرب وجنوب العاصمة الفرنسية لمواجهة المتظاهرين، كما شهدت بعض المدن الأخرى أعمال عنف، وأوقفت الشرطة عشرات من المتظاهرين.
وكانت حركة السترات الصفراء قد ظهرت للمرة الأولى في 17 نوفمبر من العام الماضي بخروج نحو 300 ألف شخص إلى الشوارع احتجاجا على القرارات التقشفية التي اتخذتها الحكومة الفرنسية، والتي كان من بينها رفع أسعار الوقود وزيادة الضرائب، مما أثار حالة من الاستياء الشعبي نتيجة انخفاض مستوى معيشة المواطنين.
وقد تم إطلاق الحركة والتعبئة لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعيدا عن أي نطاق حزبي أو نقابي ودون قيادة موحدة، وأطلق عليها اسم “السترات الصفراء” حيث أنها خرجت إلى الشارع مرتدية السترات الصفراء الليلية الخاصة بسائقي السيارات.
ورغم الطابع السلمي الذي تسمت به المظاهرات في البداية إلا أنها اتخذت منحى عنيفا لاحقا حيث تسببت في اندلاع أعمال العنف والتخريب في مختلف أنحاء البلاد، ووقوع مواجهات بين المتظاهرين وأفراد الشرطة. كما تعرضت المتاجر والمحلات في الأحياء والشوارع الراقية إلى التحطيم والنهب، وتم تشويه بعض المعالم السياحية والوطنية وإشعال النار في السيارات.
كل ذلك دفع حكومة ماكرون إلى التراجع عن عدد من القرارات الإصلاحية التي اتخذتها، حيث قررت إلغاء الضريبة على الوقود التي أشعلت فتيل الاحتجاجات، وعدم رفع الضرائب على الفئات المتوسطة والفقيرة والمتقاعدين، فضلا عن زيادة بقيمة 100 يورو في معاشات الفئات الاجتماعية محدودة الدخل. كما أطلقت الحكومة الفرنسية ما عرف بـ”الحوار الوطني” في كافة أنحاء البلاد في الفترة ما بين يناير ومارس من العام الجاري، والتي دعا من خلاله الرئيس الفرنسي المواطنين إلى تقديم اقتراحات في محاولة لكسر الصورة “النمطية” التي يراه من خلالها المحتجون والمتعاطفون معهم.
وبعد ستة أشهر من هذا “الحوار الوطني”.. أفرزت المشاورات العامة تخفيضات ضريبية بقيمة 17 مليار يورو، إضافة إلى بعض الحوافز المالية. لكن الحكومة رفضت الاستجابة لبعض مطالب السترات الصفراء، ومن أهمها إعادة الضريبة على الثروة بالنسبة للأغنياء، بحجة أن إلغاءها يشجع الأثرياء على عدم الاستثمار في الخارج.
وتسببت تظاهرات “السترات الصفراء” في تكبد الاقتصاد الفرنسي خسائر مالية كبيرة لحقت بمختلف القطاعات الحيوية بالبلاد وقدرت بملايين الدولارات، حيث ساهمت في خفض أرباح الشركات التجارية وشركات التوزيع بشكل حاد كما تسببت في إغلاق مئات المحلات التجارية وغلق الطرق الرئيسية، ولحقت ضررا بالغا بقطاع السياحة.
ويتفق المراقبون على أن حركة السترات الصفراء شكلت مأزقا صعبا أمام الرئيس ماكرون الذي لم يكن قد أكمل عامه الثاني داخل الإليزيه، فلم يكن هناك من يتوقع أن تحظى الحركة بهذا الزخم الكبير وتتمكن من استقطاب هذا العدد الهائل من المتظاهرين. كذلك نجحت الحركة إلى حد كبير في وضع حد للإصلاحات القاسية التي كان ينوي ماكرون تنفيذها في عدد من القطاعات الحيوية بالدولة.
والواقع أنه على الرغم من تراجع زخم الحركة، بالنظر إلى انخفاض عدد المشاركين من عشرات الألاف إلى بضعة ألاف فقط، إلا أنها لا تزال تمثل تحديا خطيرا لحكم ماكرون. فالقلق لا يزال قائما من عودة الحركة مجددا وبقوة إلى الساحة، خاصة وأن هناك العديد من المطالب التي لم يستجب لها. ووفقا للمراقبين، فإن الحركة لم تختف من الساحة بل تواصل الحراك الأسبوعي لها حتى الآن ودخل الأسبوع الـ 53 كما أن هناك حالة من الاستياء العام التي لا تزال تسود في الشارع الفرنسي نتيجة تراجع القوة الشرائية للمواطنين وانخفاض مستويات المعيشة، وهو ما جعل الحركة لا تزال تحظى بدعم شعبي واسع، حيث أظهر آخر استطلاع للرأي لمؤسسة إيلاب أن 69% من الفرنسيين يعتبرون أن مطالب حركة السترات الصفراء مشروعة.
كما أظهر استطلاع آخر للرأي، أجرته مؤسسة “أودوكسا” منذ أسبوعين، أن قرابة واحد من بين كل اثنين من الفرنسيين يعتقدون أن الحركة قد تعود للظهور من جديد، خاصة وأن السلطات الفرنسية تخشى من تضامن “السترات الصفراء” مع مجموعات احتجاجية أخرى، حيث يخطط عمال السكك الحديدية لتنظيم إضراب جماعي في الخامس من ديسمبر المقبل بسبب إصلاحات نظام المعاشات، في الوقت الذي تظاهر فيه الطلاب في جميع أنحاء فرنسا احتجاجا على الفقر والظروف المعيشية الصعبة.
إضافة لذلك، فإن الوجوه البارزة للحركة لا تزال حاضرة في المشهد، وعلى الرغم من فشلها في التجمع تحت قيادة موحدة، إلا أن كل منهم يعمل انطلاقا من مجموعته من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
في ضوء ما سبق، يبدو واضحا أن خطر “السترات الصفراء” لا يزال قائما وهو ما يمثل تهديدا جادا أمام الرئيس ماكرون، لاسيما إذا توحدت مطالب السترات الصفراء مع مطالب باقي الفئات المهنية الأخرى، وهو ما قد يشكل بدوره عنصرا ضاغطا واختبارا قاسيا للرئيس الفرنسي في النصف الثاني من ولايته الرئاسية، وبالتالي ستكون بمثابة النقطة الفاصلة لطموحاته في الترشح لولاية ثانية.