شويّة دردشةعاجل

الرحمة.. كذبة جميلة يجب أن نصدقها| بقلم وسام سمير

في زمن تتسارع فيه القسوة، وتتضاءل فيه المساحات الآمنة للقلوب، تصبح الرحمة ليست مجرد فضيلة، بل ضرورة مصيرية، صارت الرحمة باب الخلاص الوحيد من الضياع القادم، الذي يهدد إنسانيتنا من الداخل، قبل أن يهدد مجتمعاتنا من الخارج.

الرحمة لم تعد رفاهية، ولا ترفًا أخلاقيًا نتبناه عندما تسنح الظروف، الرحمة اليوم هي الهدف، هي الخطة، هي السلاح الأخير في معركة الحفاظ على ما تبقى من بشر فينا.

لكنّ الرحمة الحقيقية تبدأ من أصغر الأشياء، من تلك اللحظات البسيطة التي تمرّ بنا فنختار أن نكون فيها بشرًا أو آلات، حين ترى طفلًا يبكي في الشارع، لا تسأل عن السبب… اقترب، فقط اقترب، حين ترى مسنًا يرتبك في عبور الطريق، لا تبرر لنفسك انشغالك… ساعده، حين يسألك أحدهم السؤال نفسه مرتين لأن ذهنه مشوش أو ذاكرته تخونه، لا تغضب، اضحك برقة وكرر الإجابة.

الرحمة لا تحتاج إلى معارك كبرى… هي موجودة في كوب ماء تقدمه لعامل النظافة، في سؤال بسيط عن زميل منطوٍ لا يتحدث كثيرًا، في صبرك على طفل يُخطئ أو مريض يتألم، في ضمة لصديق لم يجد ما يقوله إلا الصمت.

بل إننا اليوم نحتاج أن ننافق الرحمة، نعم، ننافقها، أن ندّعيها، ونلبس وجهًا رحيمًا حتى لو لم يكن وجهنا الحقيقي، ما أجمل أن نكذب على أنفسنا من أجل الرحمة، أن نخلق الأعذار حتى نتعاطف، أن نفتعل الحنان حتى يصبح عادة، أن نضحك على أنفسنا ونحن نتصنّع الرحمة… حتى تصبح حقيقية، لأن الرحمة مثل أي شيء جميل، تبدأ تمثيلًا وتنتهي صدقًا.

الفقير لا يحتاج فقط إلى المال، بل إلى عين تراه كإنسان، المريض لا يريد الدواء فقط، بل لمسة حنان تجعله يتشبث بالحياة، المظلوم لا ينتظر محامٍ بارع بقدر ما يحتاج من يصدّقه، المنبوذ لا يريد سوى نظرة لا تُشعره بأنه زائد عن الحاجة، والفاقد للاتصال، الغريق في عزلته، أحيانًا يكفيه أن تكتب له: “أنا هنا، فقط لأجلك”.

الحياة تعطينا عشرات الفرص كل يوم لنكون رحماء، لكننا نغضّ الطرف، ونقول “ليست مشكلتي”، الحقيقة أنها كلّها مشكلتنا، لأن الرحمة لا تقف عند حدود الآخر، بل تبدأ منّا… وتعود إلينا.

تخيّل مستقبلًا تكون فيه الرحمة أسلوب حياة، لا استثناء، مدينةً يتوقف فيها الناس ليُصلحوا قلوب بعضهم قبل أن يُصلحوا سياراتهم، مدرسةً تعلّم الأطفال كيف يشعرون قبل أن تحشو رؤوسهم بالمعلومات، عائلةً لا تخجل من التعبير عن الحب، حُكمًا لا يخاف من اللين، مجتمعًا يحتفي بالبكاء كما يحتفي بالقوة.

ذلك المستقبل موجود، وممكن… فقط إن حملنا الرحمة على أكتافنا، ورفعناها عاليًا، حتى لو كذبنا، حتى لو نافقنا، المهم أن تصل.

لأن في عالم ينهار، الرحمة ليست مجرد حل…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى