
ورد إلى دار الإفتاء سؤالًا يقول يوجد في مدينة تمبي في ولاية أريزونا في الولايات المتحدة الأمريكية مسجد باسم (المركز الإسلامي)، وتقام فيه الصلوات الخمس والجمع وبعض الدروس العلمية، كما تقام في نفس المسجد يوم الجمعة صلاة الجمعة مرتين أو ثلاث مرات أحيانًا والفرق ساعة بين كل صلاة جمعة.
وأضاف قائلا : وفي يوم من أيام الجمعة حضرت صلاة الجمعة الأولى حيث خطب الجمعة وصلى الصلاة أحد الأئمة وبعد انتهاء الصلاة وانصراف الناس المتواجدين، بدأ وقت صلاة الجمعة الثانية بنصف ساعة تقريبًا، رجع نفس الإمام الذي صلى بنا الجمعة الأولى، واعتلى المنبر وبدأ خطبته، وبعد الانتهاء من الخطبة ظننت أنه قد يقدم شخصًا آخر مكانه ليصلي بالناس.
وتابع: لكنني تفاجأت به هو نفسه الذي صلى بنا الجمعة الأولى يصلي بالجماعة الثانية ويؤمهم للصلاة، فتعجبت كثيرًا كيف لإمام أن يصلي صلاتي جمعة، بالجماعة الأولى والجماعة الثانية! فالصلاة الأولى صليناها في وقتها بعد الزوال على الساعة الواحدة ظهرًا، والصلاة الثانية على الساعة الثانية ظهرًا، هم في العادة كل جمعة يصلونها بإمام غير الجمعة الأخرى، ولكن الذي حدث ذلك اليوم كان أمرًا غريبًا عليَّ وتعجبت منه كثيرًا. فما حكم الصلاة الثانية للإمام والجماعة التي صلت معه؟
ومن جانبها، قالت دار الإفتاء إن صلاة الجمعة شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، حثَّ الشرع على السعي إليها والاجتماع فيها والاحتشاد لها؛ توخيًّا لمعنى الترابط والائتلاف بين المسلمين؛ ولذلك افترضها الله تعالى جماعةً؛ بحيث لا تصح مِن المكلَّف وحدَه مُنفرِدًا؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۞ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 9-10].
وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ، إلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أًو امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ» رواه أبو داود في “السنن”، والحاكم في “المستدرك”، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وكذا قال النووي في “خلاصة الأحكام”، وصححه البلقيني في “البدر المنير”.
قال العلامة ابن رسلان الشافعي في “شرح أبي داود” (5/ 503، ط. دار الفلاح): [استُدِلَّ به على أن من شروط الجمعة أن تقام في جماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين بعده لم ينقل عنهم، ولا عن أحد في زمانهم، ولا بعدهم، أنه فعلها فرادى] اهـ.
وإذا جاز تعدد الجمعة في أكثر من مسجد، وجاز تأخير جماعةٍ منها عن غيرها: جاز أيضًا تعددها في المسجد الواحد من باب أولى؛ لأن صلاة الجُمَعِ على هذه الصفة وافقت اشتراطَ الفقهاء أداءَها في المسجد الواحد ما لم تكن هناك حاجة، فإذا دعت الحاجة إلى تعددها في مسجد واحد كان ذلك أولى من تعددها في أكثر من مسجد؛ لاتحاد الموضع وإن تكررت فيه الجماعة لمكان الحاجة؛ إذ ذلك أنأى من الخلاف، وأدعى للائتلاف.
ويتفق ذلك مع ما أجازه الظاهرية مِنْ أن مَنْ فاتتهم الجمعة جاز لهم أن يصلوها جمعة أيضًا، وإن خالف الجمهور في ذلك؛ قال الإمام ابن حزم الظاهري في “المحلى بالآثار” (3/ 289، ط. دار الفكر): [مسألة: وإن جاء اثنان فصاعدًا وقد فاتت الجمعة: صلوها جمعة؛ لما ذكرنا من أنها ركعتان في الجماعة] اهـ.
فتعدد الجمعة في هذا المسجد -المسؤول عنه- جائزة ومجزئة، ما دامت مكتملة الشروط والأركان؛ نظرًا لضيق المسجد وعدم استيعابه كلَّ من يريد حضور الجمعة، مع عدم إمكان الصلاة خارجه في حالة السؤال، وهذا لا يخرج عن معنى الحاجة عند الفقهاء، ولأنَّ بعض المسلمين ليسوا بأولى بصلاة الجمعة من غيرهم.
أما عن إمامة إمام الجمعة الأولى للجمعة الثانية: فإنها مبنية على أنه في صلاته للجمعة الثانية متنفلٌ لا مفترضٌ، وقد أجاز فقهاء الشافعية اقتداء المُفترض بالمتنفل في صلاة الجمعة في أحد قولين في المذهب، ورجَّحه بعضهم؛ لأن الغرض هو حصول الجماعة، ومجرد اختلاف نية الإمام والمأموم لا تمنع صحة الجماعة، ولأن الإمام من أهل الفرض فجازت إمامته:
ونخلص من ذلك إلى أن صلاة الجمعة تُصلى في مسجدٍ واحد دون تعدد، غير أنه إذا دعت الحاجة إلى تعددها في أكثر من مسجد؛ بأن كان البلد واسعًا، أو تباعَدَت نواحيه، أو شقَّ على مَن بعُد منزلُه الإتيان لمحل الجمعة: فذلك جائز عند جمهور العلماء، ولا يضر حينئذٍ تأخير جماعة عن جماعة، ووقت الجمعة هو وقت الظهر، حتى نُقِلَ الاتفاق على ذلك.
فإذا جاز ذلك جاز تعدد الجُمَعِ في المسجد الواحد من باب أولى؛ إذ إنه يوافق ما اشترطه الفقهاء من اتحاد المسجد في البلد الواحد ما لم تكن هناك حاجة، فإذا دعت الحاجة إلى تعددها في مسجد واحد كان ذلك أولى من تعددها في أكثر من مسجد؛ لاتحاد الموضع وإن تكررت فيه الجماعة لمكان الحاجة؛ إذ ذلك أنأى من الخلاف، وأدعى للائتلاف، والصلاة على هذه الصفة صحيحة ومجزئة، ما دامت مكتملة الشروط والأركان، على أن الحاجة في ذلك تقدر بقدرها، فإذا لم يعد للتعدد حاجة رجع الحكم فيه إلى الأصل وهو عدم الجواز.
والأولى حينئذٍ أن تُصلى كل جماعة منها بإمامٍ مُعيَّن؛ خروجًا من خلاف من أوجب ذلك من الفقهاء، أما إن صلى الإمامُ نفسُه الجمعةَ بجماعتين من المُصلين فهي صحيحة مجزئة؛ أخذًا بما أجازه بعض الفقهاء من صلاة المفترض خلف المتنفل.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فالصلاة الثانية صحيحة؛ للإمام والمأمومين؛ حيث وافق ذلك أحد آراء المذاهب وأقوال المُجتهدين.