الأكراد.. شعب ظلمته الجغرافيا وخذله التاريخ وتلاعب بأحلامه الكثيرون
جاء العدوان التركي الأخير على شمال سوريا والذي يستهدف القضاء على المسلحين الأكراد السوريين ليعيد تسليط الضوء مجددا على الأكراد كقومية تمثل أحد شعوب المنطقة والذين ظلمتهم الجغرافيا فتوزعوا على أربع دول(تركيا وإيران والعراق وسوريا) كما خذلتهم العديد من القوى والأطراف الدولية والأقليمية مرارا، وتلاعبت بأحلامهم وتطلعاتهم في إقامة دولتهم المستقلة ولم يعد لهم أصدقاء سوى الجبال ، كما يقول المثل الكردي الشهير.
فالمتأمل لتاريخ الأكراد ومسيرتهم الطويلة بحثا عن تحقيق حلم دولتهم المستقلة ، سيجد أنهم تعرضوا لظلم كبير منذ الحرب العالمية الأولى ، فقد كانوا القومية الوحيدة في المنطقة ذات العدد الكبير تقريبا التي حُرمت من إقامة دولتها المستقلة بعد تقسيم المنطقة إلى دول وممالك وفقا لاتفاقية سايكس- بيكو الشهيرة بين المستعمر البريطاني والفرنسي والذي قسم المنطقة وفقا لمصالحه وأهدافه الخبيثة.
وبعد سقوط الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى ، كان حلم الأكراد في الحصول على وطن خاص بهم على وشك التحقق فقد نصت معاهدة “سيفر” التي أبرمها الحلفاء عام 1920 على حق الأكراد في تقرير المصير وتشكيل دولتهم الخاصة في شرق الأناضول ، لكن هذا الحلم تبدد بعد انتصار مصطفى كمال أتاتورك في حرب التحرير في تركيا واضطرار الحلفاء للتراجع عن بنود معاهدة “سيفر” واستبدالها في 1923 بمعاهدة “لوزان” التي وضعت الشعب الكردي تحت سيطرة تركيا وإيران بالإضافة إلى بريطانيا وفرنسا اللتين كانتا دولتي الانتداب على كل من العراق وسوريا.
تاربخ الاكراد وأصول
يختلف تقدير تعداد الأكراد في المنطقة – وفقا للعديد من المصادر – لكن عددهم يتراوح حسب معظم التقارير ما بين 25 و35 مليون نسمة يتوزعون بشكل أساسي في أربع دول هي (تركيا وإيران والعراق وسوريا) وهم من أصول (هندو – أوروبية) ينحدرون من القبائل الميدية التي استوطنت بلاد فارس القديمة وأسست إمبراطورية في القرن السابع قبل الميلاد.
ويعيش العدد الأكبر من الأكراد في تركيا ، التي يوجد بها أكثر من 15 مليون نسمة أي ما يمثل نحو 20 % من إجمالي السكان ثم إيران والتي تضم نحو 6 ملايين كردي أي أقل من 10 % من السكان .. أما في العراق فيتراوح عدد الأكراد ما بين 5 إلى 6 ملايين نسمة أي ما يقرب من 20 % من السكان .. أما سوريا فهي الأقل من حيث عدد الأكراد فيها حيث يقدر عددهم بما يزيد على مليوني نسمة أي نحو 15 % من السكان وبالإضافة إلى هذه الدول الأربع تعيش أعداد كبيرة من الأكراد في كل من أذربيجان وأرمينيا ولبنان إضافة إلى وجود تجمعات كبيرة للأكراد في أوروبا وبشكل خاص في ألمانيا.
وقد ساعدت الطبيعة الجبلية للمناطق الكردية المغلقة من دون أي منفذ على بحر..الأكراد في الحفاظ على هويتهم القومية ولغتهم بلهجاتها المختلفة وعلى عاداتهم وتقاليدهم وتنظيمهم المجتمعي القائم بشكل أساسي على النظام القبلي.
ونتيجة رغبتهم المستمرة في الاستقلال وسعيهم لإقامة دولة كردستان الموحدة..فقد وجد الأكراد أنفسهم في الدول الأربع التي توزعوا عليها في صراعات ومواجهات دامية مع الحكومات المركزية في هذه الدول والتي تعاملت معهم باعتبارهم تهديداً لوحدة أراضيها.
فقد ضيقت تركيا الأتاتوركية الخناق على الأكراد ومنعتهم حتى من تسمية أنفسهم كرداً وسمتهم «أتراك الجبال» ولم يسمح لهم بالتحدث بلغتهم إلا في عهد الرئيس الراحل تورجوت أوزال أما حكام إيران فقد وضعوهم في مرتبة دنيا مثلهم مثل عرب الأهواز، ولم يختلف سلوك الدولة الإيرانية تجاه الأكراد عقب قيام الجمهورية الإسلامية ، فقد قعمت أحزابهم تحت عنوان «مكافحة الإرهاب».
أما في سوريا والعراق .. فقد شارك الأكراد في الأحزاب الوطنية وكان منهم رؤساء حكومات ووزراء في مرحلة ما قبل وصول حزب البعث إلى الحكم لكن الأمور تغيرت بعد ذلك حيث تعرض الأكراد لحملات التعريب والتغيير الديموغرافي.
وعلى مدى عقود طويلة .. كان الأكراد ضحية لهزائم مريرة نتيجة ما حدث من تلاعب بهم من قبل الأطراف الدولية والإقليمية التي وظفّت الورقة الكردية لتحقيق مصالحها وساعدها في ذلك أن الأكراد كثيرا ما كانوا يراهنون على تلك الأطراف لتحقيق مشروعهم القومي المستحيل في إقامة دولتهم المستقلة لكنهم في كل مرة كانوا يخسرون هذا الرهان ثم سرعان ما يعيدون تكرار الأخطاء دونما استخلاص للعبر والدروس من الإخفاقات السابقة.
أمريكا تخذل الأكراد
الخذلان الأمريكي للأكراد السوريين بعد دورهم المهم في القضاء على تنظيم داعش الإرهابي وتركهم يواجهون مصيرهم في مواجهة الغزو التركي ، ربما لن يكون الأخير في هذه المسيرة المؤلمة.
ففي العراق على سيبيل المثال وبعد الحرب العالمية الأولى ..كانت بريطانيا تقوم بتحريض العشائر الكردية على التمرد ضد النظام الملكي العراقي القائم آنذاك كلما شعرت أن هذا النظام يرفض توقيع معاهدة طويلة الأمد تجعل من العراق خاضعا لبريطانيا بصورة كاملة وبعد أن كانت تنجح في توقيع هكذا معاهدات كان المستعمر البريطاني يرسل قواته المسلحة لسحق الانتفاضات الكردية التي شجعها من قبل.
والأمر نفسه تكرر مع أكراد إيران عندما صدّقت القيادات الكردية وعود وتعهدات الاتحاد السوفيتي ، فقاموا بإعلان جمهورية “مهاباد” الكردية ذات الحكم الذاتي بعد الحرب العالمية الثانية عام 1946 لكن السوفيت تنصلوا عن وعودهم وتخلوا عن هذه الجمهورية الوليدة التي تم سحقها وأعدم قادتها على يد قوات شاه إيران المدعومة آنذاك من بريطانيا والولايات المتحدة بعد أن قدم الشاه لهم (السوفيت) بعض الامتيازات داخل إيران.
وتكرر الأمر أيضا في العراق الجمهوري الذي اعترف ولأول مرة بالأكراد شركاء للعرب في الوطن وتم النص على ذلك في الدستور العراقي..ففي إطار الصراع بين عراق البعث وإيران الشاه شاركت طهران وبدعم أمريكي في تسليح ثورة كردية ضد بغداد بقيادة مصطفى البارزاني لكنها سحبت هذا الدعم عندما التقى الرئيس الراحل صدام حسين وشاه إيران في الجزائر عام 1975 ووقعا ما عرف ب” اتفاقية الجزائر” لتقاسم شط العرب بينهما.
ولم يختلف الوضع بالنسبة لأكراد سوريا في ذلك، فرغم أن غالبيتهم من أصول ومن عوائل نزحت إلى سوريا هربا من تركيا الأتاتوركية وقبلها العثمانية بسبب الحملات العسكرية الكبيرة ضدهم، إلا أن بعض أحزابهم فضلت التعاون مع الولايات المتحدة وحتى إسرائيل ضد الدولة السورية بل إن قسما منها تعاون لفترات حتى مع تركيا.
وخلال فترة التوتر بين سوريا وتركيا في حقبة التسعينات ..سمح الرئيس الراحل حافظ الأسد لزعيم حزب العمال الكردستاني التركي عبدالله أوجلان والذي كان يخوض حربا مسلحة ضد الدولة التركية بالإقامة وتدريب قواته في سهل البقاع والقيام بعمليات في تركيا ، لكن حين أرسل الرئيس التركي الراحل سليمان ديميريل قواته على الحدود وهدّد باجتياح سوريا، دفع أوجلان الثمن حيث تم ترحيله ليقبض عليه في إحدى الدول الأفريقية وثم ترحيله إلى تركيا حيث يقبع في سجنه بجزيرة إيمرالي حتى اليوم.
ويرى كثير من المحللين السياسين أنه لا بديل لمواجهة أزمة الأكراد سواء في سوريا أو غيرها سوى من خلال الاعتراف بحقوقهم السياسية والثقافية في وطن ديمقراطي تعددي يتسع لكل أبنائه باختلاف انتماءاتهم العرقية أو الدينية ويقطع الطريق على الأطراف التي طالما سعت لاستخدام المسألة الكردية وسيلة لتحقيق مصالحها في المنطقة.