شويّة دردشةعاجل

مصر ساعة العصارى.. دفء القلوب وسحر التفاصيل| بقلم وسام سمير

هناك لحظات تمتزج فيها الروح بالمكان، وتنسكب في الزمن كقطرة ضوء على صفحة الماء، فلا يكون الزمن مجرد عقارب تدور، بل يصبح إحساسًا نابضًا بالحياة، ومن بين تلك اللحظات التي تأسر القلب وتمنح الروح طمأنينة لا توصف، تأتي ساعة العصاري في مصر، حيث تنسج الشمس خيوطها الأخيرة فوق شرفات البيوت، وتغمر الشوارع بضوء ذهبي حنون، وكأنها تودع الأرض بوعدٍ بأن تعود في الغد بذات الدفء والبهاء.

في هذه الساعة، يفيض الشارع المصري بروحه الحقيقية، حيث يتقاطع الهدوء والتعب مع الأمل والحياة، ترى الموظف الذي غادر عمله عائدًا إلى بيته، يحمل كيس الفاكهة التي اشترى بعضها من بائع متجول، يحيّي الجيران بابتسامة لا تفقد حرارتها رغم عناء النهار. والأم التي تفتح باب البيت في انتظار ابنها الذي عاد من المدرسة، بينما يركض الأطفال في الأزقة الضيقة بأقدام صغيرة تطارد أحلامًا لا تنتهي.

هنا تتجلى الأصالة المصرية بكل معانيها، حيث يجتمع أفراد الأسرة حول مائدة الغداء المتأخر، لا يشغلهم الوقت بقدر ما يشغلهم الدفء الذي يملأ المكان. لا يزال الأب المصري هو ذلك الرجل الحنون الذي يخبئ متاعب يومه خلف ضحكة صافية، والأم التي تطمئن على الجميع قبل أن تجلس أخيرًا لتناول لقمة حبٍّ لا طعام. على الطاولة، تمتزج نكهات الطعام بنكهات الحكايات، فتبدأ الأسئلة عن تفاصيل اليوم، والضحكات التي تتسرب بين اللقمة واللقمة، وكأنهم يرممون تعب الحياة بحديث بسيط، لكنه عميق الدلالة.

أما الجيران، فهم امتداد للأسرة، يعرفون بعضهم بأسمائهم، يطرقون الأبواب بلا استئذان، ويتبادلون الأطباق والمواساة والفرح. عند مدخل كل بيت، ستجد رجلاً مسنًا يجلس على كرسي خشبي يتابع المشهد بنظرات هادئة، أو امرأة تنادي على طفلها ليدخل قبل أن تشتد برودة المساء. في المقاهي الشعبية، يجتمع الأصدقاء بعد عناء النهار، يتحدثون عن كل شيء ولا شيء، يرتشفون الشاي الثقيل، ويدخنون سجائرهم ببطء كأنهم يحاولون إطالة لحظة الراحة قبل أن تعود الحياة إلى إيقاعها السريع.

اليوم كما الأمس، لا يزال الشعب المصري هو الشعب الدافئ الذي يملك من الإنسانية ما يجعل البساطة عمقًا، والتلقائية سحرًا، والتعاون أسلوب حياة. لا تزال أخلاقيات الشارع المصري تفيض شهامة ونبلًا، فتجد من يسارع لمساعدة عجوزٍ في عبور الطريق، أو من يترك مكانه في المواصلات لشخص أكبر سنًا، أو من يمد يده بحفنة نقود لطفل صغير يبيع المناديل دون أن يسأله عن حاله، فهو يعرف حاله دون كلمات.

في ساعة العصاري، لا ترى مصر فقط، بل تشعر بها، تسمعها في نداء الباعة الجائلين، في صوت الأذان الذي ينساب عبر المآذن القديمة، في ضحكات الأطفال، في وقع الأقدام العائدة إلى البيوت، في نسيم النيل الذي يحمل معه حكايات لم تُكتب بعد. هذه هي مصر التي نحبها، ونحملها في قلوبنا أينما ذهبنا، مصر التي لا تشرق عليها الشمس ولا تغيب، لأنها تسكن في تفاصيلنا الصغيرة وفي لحظاتنا الكبيرة، وفي دفء ساعة العصاري الذي لا يشبهه شيء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى